وصلت الطائرة إلى مطار طشقند قبل الفجر بثلاث ساعات تقريباً، وقد استغرقت الرحلة من اسطنبول أربع ساعات ونصفاً تقريباً، فلما ولجت صالة المطار مع الباحثين الذين اجتمعوا في الرحلة معاً فوجئنا باستقبال حافل، ومكثنا في الصالة الخاصة محاطين بالعناية والتكريم حتى فرغوا من ختم الجوازات وإحضار الحقائب، وفاجأونا بخبر متعب ألا وهو أنهم قد قرروا تكريمنا بتخصيص قطار خاص ينقلنا إلى سمرقند !! ولم أكن أريد هذا بل كنت أرغب في المكث في طشقند قليلاً للراحة ومن ثم الانتقال بالطائرة إلى سمرقند لكن كان هذا أمراً قد فُرغ منه قبل مجيئنا فاستسلمنا لهذا وركبنا القطار في الساعة الخامسة قبل الفجر لنصل إلى سمرقند في التاسعة صباحاً، وفي القطار صلينا الفجر في إحدى غرفه، ولقد بالغوا في إكرامنا، وأحضروا ألواناً من الطعام والشراب والفاكهة حتى أنهم أتوا بأكلتهم الشعبية "بلوف" ـ وهي أرز بلحم ـ في السابعة صباحاً !! ثم لما وصلنا إلى رصيف محطة سمرقند استقبلونا استقبالاً رسمياً، وكان معنا نائب رئيس الوزراء، وأحضروا من يضرب الطبول وينفخ في الأبواق، وأتوا بفتيات غير محجبات معهن الورود ليقدمنها إلى أعضاء الوفد ـ هذا والمؤتمر إسلامي !! ـ فانسللت إلى القاعة هرباً من ذلك الموقف فاللهم غفراً، وإنما جرى هذا المنكر منهم لأنهم قد خرجوا للتو من استخراب روسي قيصري ثم بلشفي دام عليهم مائة وثلاثين عاماً عجافاً، والقوم لا يطبقون من الإسلام إلا القليل فمثل هذا الذي جرى منهم إنما هو أمر هين نسبياً، والله المستعان ومنه العفو والغفران.
وحدث مثل هذا في حفل استقبال المحافظ لنا في سمرقند حيث أتوا بامرأة غير محجبة تغني ومعها فرقة موسيقية فلم أر أنه يسعني البقاء فخرجت خارج القاعة حتى فرغت ثم عدت، ثم عادت فخرجت ثم عدت وهكذا دواليك، والقوم في دهشة، وجاء بعضهم فكلمني فبينت له حرمة أن تغني امرأة أمام الرجال، فجادلني بأن هذا غناء قومي ولا بأس به لكني أكدت له حرمة هذا في الشرع وأنه لا يجوز فيئس مني وتركني، وأعيد هذا أيضاً إلى ما القوم فيه من بعد عن الدين بعد احتلال واستخراب طويلين.
ثم لما وصلنا إلى قاعة الاستقبال في رصيف المحطة كان المحافظ في استقبالنا، وارتجل كلمة ترحيبية ترجمها أحد المرافقين، ثم بعد استراحة قصيرة أخذونا إلى الفندق فوصلنا قرابة العاشرة، وأخبرنا المنظمون أننا سنرتاح إلى الواحدة ثم نتغدى ونذهب إلى الأماكن الأثرية، وهذا الذي جرى، وتحركت بنا الحافلة قبل الثالثة بقليل.
وتوجهت بنا الحافلة إلى قبر الإمام البخاري فسلمت عليه السلام الشرعي، وتذكرت ذلك العملاق العظيم وأياديه البيضاء الرائعة على علم الحديث النبوي، وكان هناك من استقبلنا وأوجز لنا سيرة الإمام وصنيعه في صحيحه، ثم دلف بنا إلى القبر فشرفت بالسلام عليه، ومما أزعجني حقاً ذلك البناء الهائل الذي بني فوق القبر وقد ظهر فيه آثار السرف والضخامة المبالغ فيها، ولو رأى ذلك الإمام لأنكره ولما أسعده، كيف لا وهو مخالفة واضحة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ثم ذهبت بنا الحافلة إلى منطقة شاه زندة ومعناه عندهم "الشهيد الحي" ويريدون به القثم بن العباس رضي الله عنه حيث يزعمون أنه دفن هناك، وهذا فيه خلاف بين المؤرخين والله أعلم بالصواب، ثم جالوا بنا بين قبور كثيرة كلها قد بني عليها أضرحة ضخمة عالية، وهي لقواد الدولة التيمورية ـ التي كان سلطانها تيمورلنك ـ ولأقرباء السلطان، وهي غاية في الضخامة كما أسلفت، وقد تعجبت طويلاً عندما رأيتها وسألت نفسي وبعض من كان معي: ما هي الفائدة التي يجنيها المسلمون من هذه الأبنية الضخمة ؟ وكيف دخلت على المسلمين هذه العادات ؟ وكيف نسوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم لعامله: "لا تدع صورة ـ أي تمثالاً ـ إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته" ؟!
وقد أجاز الفقهاء أن يعلوا القبر قدر شبر ليتميز عن سائر الأرض وليُصان، فكيف بنا اليوم وقد علا القبر إلى متر أو يزيد، وبني فوقه بناء قد يبلغ قرابة مائة متر بل قد يزيد ؟!
ثم مروا بنا مروراً سريعاً على ضريح تيمورلنك، وهو أضخم هاتيك الأضرحة، ورأيت من الحافلة "بيبي خانوم" وهو بناء ضخم هائل بناه تيمورلنك تخليداً لذكرى زوجه بيبي خانوم، وبدأ بناءه بعد انتصاراته التي حققها في الهند.
ثم أولم لنا المحافظ في فندق فاخر، وبدأ المحافظ بكلمة ترحيبية، وتلاه الأستاذ النشط مجدي مرسي ـ الملحق الثقافي بالسفارة المصرية الذي أنشأ المركز الثقافي المصري لتعليم اللغة العربية، وله آثار جيدة ـ فألقى كلمة ترحيبية شاكراً الدولة على استضافتها المؤتمر الدولي العلمي: "أوزبكستان موطن علماء ومفكري العالم الإسلامي العظام" ثم بدأ حفل العشاء على ما وصفت آنفاً، ولما انتهى الحفل أخذونا إلى الفندق وأخلدنا إلى الراحة.
وفي اليوم التالي بدأ المؤتمر في الساعة التاسعة والنصف بالكلمات الترحيبية المعتادة من قبل قيادات رفيعة في الدولة مما يظهر الاهتمام به والعناية بأشخاصه، وكذلك تحدث الأستاذ عبدالإله بن عرفة مندوباً عن "الإيسيسكو" وهو المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، وشكر الدولة وتحدث حديثاً موجزاً عن الفتح الإسلامي للمنطقة، وعن حضارتها وآثارها، وذكر أمراً مهماً جداً ألا وهو الجناية التي حدثت على اللغة العربية في استبدال الحروف اللاتينية ثم الروسية بها سنة 1927 ثم سنة 1940 ودعا في لفتة بارعة إلى إعادة اللحمة للغة العربية مرة أخرى، ثم عرج على اختيار طشقند عاصمة للثقافة الإسلامية لسنة 2007، وأهمية ذلك، وسرد العواصم التي اختيرت. فبين أن العاصمة الأولى التي اختيرت عاصمة للثقافة سنة 1425/2005 وهي مكة المكرمة، ثم اختيرت ثلاث مدن لسنة 1426/2006 وهي حلب عن المنطقة العربية، وتبنكتو عن المنطقة الإفريقية، وأصفهان عن آسيا، ثم اختيرت ثلاث مدن لسنة 1427/2007 وهي طشقند عن آسيا، وطرابلس وفاس عن المنطقة العربية، وداكار عن المنطقة الإفريقية، وختم كلمته الموفقة بعد ذلك.
ثم تحدث الأستاذ الدكتور يوسف عبد الغفار من البحرين وهو رئيس جامعة المملكة فيها، وذكر في حديثه تاريخ المنطقة وأهميتها قديماً وحديثاً، ثم وازن بين منجزات الحضارة الإسلامية العظيمة التي شاركت في صنعها أوزبكستان قديماً وبين ما يتهم به الإسلام اليوم من تهم شتى، وبين أن حضارة عظيمة كهذه لا يمكن أن توصم بما توصم به من قبل أعداء الإسلام قديماً وحديثاً، ثم شكر الدولة والإيسيسكو وكل من ساهم في إقامة هذا المؤتمر.
ثم تحدث غير هؤلاء إلى أن خُتمت جلسة الافتتاح بشيئين: بفيلم وثائقي تسجيلي لوقائع مؤتمر إسلامي جرى في أغسطس سنة 2006، ويُعد المؤتمر الأول الذي يتحدث عن "مساهمة أوزبكستان في تطوير الحضارة الإسلامية"، وأهدى القائمون على المؤتمر نسخة من الفيلم لكل باحث، والشيء الآخر الذي ختمت به جلسة الافتتاح هو أول بحث ألقي وهو: "أوزبكستان مركز علمي هام في بلاد المشرق الإسلامي في العصور الوسطى" للباحث الدكتور أحدجان حسنوف من أوزبكستان وذكر في البحث أن هناك احتفالاً جرى بمناسبة تكريم الفلكي أحمد الفرغاني، فسأل الباحث أحد علماء الفلك من جورجيا: هل يمكن المقارنة بين أوزبكستان وجورجيا في علم الفلك ؟ فقال: لا يمكن، فبينهما كما بين السماء والأرض، فأحمد الفرغاني وأُلُغْ بيك ـ السلطان الفلكي العالم، حفيد تيمورلنك ـ لم يكن هناك مثلهما على الأرض !! وذكر الباحث أنه قد كان هناك عشرة مراكز ثقافية وعلمية عظمى في العالم الإسلامي كان منها ثلاثة فيما يعرف بأوزبكستان اليوم، لكن الباحث تساءل عن خطأ ـ كما يرى ـ وقع فيه ياقوت الحموي، عندما قال: إن ياقوتاً يقول في كتابه "معجم البلدان": إن الأتراك والبيزنطيين هما أعداء الإسلام، فتساءل عن هذا متألماً، فأردت أن أعقب بأن ياقوتاً لا يريد بهذا الأتراك المسلمين طبعاً إنما يريد أمة الخطا والأتراك غير المسلمين والدليل على هذا أن ياقوتاً وغيره عندما يذكرون حدود بلاد ما وراء النهر يذكرون أنه يحدها من جهة الشرق الترك، أردت أن أعقب بهذا لكن قيل لي إنه غير مناسب لكون الباحث معظّماً عند قومه !! وطلب مني إرجاء التعقيب إلى وقت آخر وقد ألقى الباحث بحثه بلغة عربية متوسطة، وهذا يذكر له فيشكر فجزاه الله خيراً. وقد بينت له رأيي في المسألة بعد المحاضرة.
ثم ابتدأت الجلسة الأولى برئاسة الدكتورة ماجدة مخلوف من مصر، وجاءت بحجابها جزاها الله خيراً بينما جاءت بعض النسوة العربيات بغير حجاب، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وألقى البَحَثة بحوثهم، فمن تلك البحوث: أبو منصور الماتريدي وكتابه "تأويلات القرآن"، ألقاه الأستاذ الدكتور سعاد يلدرم، أستاذ الدراسات الإسلامية في كلية الإلهيات، جامعة مرمرة باسطنبول، وكان قد ألقى بحثه بالعربية جزاه الله خيراً، وكانت لغته متوسطة.
ثم ألقت الدكتورة ثريا كريموفا بحثها "نشاط علماء أوزبكستان في المراكز العلمية في العصور الوسطى" وألقته باللغة الأوزبكية، وهي مديرة معهد الاستشراق في مجمع علوم أوزبكستان.
ثم ألقى د. محمد آق قوش بحثه: "دور المتصوفين الأوزبك في نشر الإسلام" ألقاه باللغة العربية فجزاه الله خيراً، وهو أستاذ الدراسات الإسلامية بكلية الإلهيات بجامعة أنقرة.
ثم تحدث د. عبد الحكيم الجوزجاني وهو أستاذ كرسي في جامعة طشقند الإسلامية، وبحثه بعنوان "مساهمة برهان الدين المرغناني في تطور علم الفقه" وألقاه باللغة العربية فجزاه الله خيراً.
ثم ألقى د. دربيك رحيمجانوف ـ أستاذ كرسي في جامعة طشقند ـ بحثه باللغة العربية "مبادئ الحنفية والتسامح الديني" وهو أضعف بحث ألقي في ذلك اليوم بسبب الخلط فيه وعدم وفاء المادة الملقاة بعنوان البحث.
ثم ألقى د. أحمد رجب من مصر بحثاً عن إسهام المعماريين الأوزبكيين في بناء المدارس في أوزبكستان في القرن العاشر الهجري، وبه انتهت الجلسة الأولى، واليوم الأول من أيام المؤتمر، واستعد الباحثون لمغادرة سمرقند لإكمال المؤتمر في بخارى في اليوم التالي.