على إثر الفاجعة التي حلت بأولف بانتقال المغفور له ان شاء الله الطالب أحمد بن محمد عبد الله البوكادي إلى رحمة الله، كتب الدكتور قدي عبد المجيد هذه الرسالة معزيا فيه أهله وذويه مضمنا اياها ما عرفه عن الفقيد
بسم الله الرحمن الرحيم
قال صاحب الملكوت وهو الحي الذي لا يموت: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" صدق الله العظيم
أيها المؤمنون
سنن الله في الكون ثابتة وإرادته سبحانه وتعالى نافذة ولا راد لقضائه وقدره. وشاءت حكمته أن نعود إليه يوما لنرى آثار أعمالنا مما قدمنا في حياتنا الدنيا الفانية. وهكذا قضت إرادة المولى وحكمته أن نودع أخانا المرحوم برحمة الله تعالى الطالب أحمد بن عبد الله البوكادي من هذه الدار الفانية ليقبل على ربه. وإذ جعل الله عباده شهودا على خلقه، فلا يسعنا إلا أن نقدم شهادة بين يدي المولى ولوجهه الكريم في حق هذا الشيخ الهمام الذي تربى في حدائق القرآن فقطف من أزهارها اليانعة ومن ثمارها الدانية وارتوى من معين آياتها فأشرب قلبه القرآن وانعكس ذلك في سلوكه، فلم يكن التواضع يجافي جنبه وتصرفاته، وكان حب العلم دأبه وديدنه والتمثل بأخلاق القرآن شأنه في سائر أحواله.
لقد أدرك بإلهام الله له، ثم بتنشئة آبائه وأشياخه له أن الحياة مزرعة الآخرة فسعى فيها حرثا وغرسا للهديين- كتاب الله وسنة رسول الله- في نفوس الناشئة لعله يجد الحصاد وافرا. فكرس حياته وجهده لقراءة القرآن وتحفيظه وتعليمه والوقوف على أسراره وحكمه تفسيرا وفقها، فلم ينظر إلى الدنيا الفانية إلا بقدر ما يتقوى به على طاعة الله، فكان حمامة المساجد ومرتاد مجالس الذكر والعلم سواء في هذه المدينة المحروسة التي أبصر فيها النور أو سواء حيثما حل وارتحل، فلم يكن أحبابه وخلانه إلا من عمار بيوت الله وحراس كتابه.
أيها المؤمنون
لقد عرف – رحمه الله- كيف يجالس الشيوخ ويغرف من معين حكمتهم ويستفيد من معارفهم، فكان نعم الراوي للآثار والأخبار، الحافظ المدقق لسير وحيوات العلماء الأفذاذ من أهل هذه الديار الذين غفلت عن ذكرهم الصحف والكتب، فكان صدره كتابا جامعا وقلبا واعيا لآثارهم ، لا يبخل بما علم عمن سأل أو أراد أن يتعلم.
كان مجلسه مجلس ذكر تتنزل فيه الرحمات لأنه لم يكن حلف غيبة أو نميمة وإنما كان صاحب نصح ودعابة، يخفض جناحه لمن هو دونه ويسعى للاستزادة حيثما توسم ذلك متحريا الدقة في الحديث والنقل والتعبير؛ فهو يرى في الدقة سر النجاح، فكان دقيقا في عرضه للنصوص وفي تعامله معها. وليس هذا في علوم الشريعة فحسب وإنما حتى في فنون الحياة والإدارة التي كان مرجعا فيها مكللا ذلك بالأمانة والصدق والخوف من الله. وكان بيته قبلة للضيوف ومأوى للمحتاجين وعابري السبيل، مكرما إياهم دون ضجر أو ملل.
كانت السماحة واللين والتغاضي ديدنه في التعامل مع الناس، ليس غفلة منه وإنما حرصا منه على الإبقاء على وشائج الصداقة والأخوة والقربى، فلم يخاصم أحدا على دنيا حتى وإن أدرك أنه مهضوم الحق، مدخرا ذلك ليوم غد.
أيها المؤمنون
إن الأرض لا تنقص بانهيار عمرانها ولا بخراب بنيانها وإنما بفقد الدعاة والعلماء المخلصين، الذين يصعب تعويضهم لأنهم ليسوا صنيعة يوم وإنما صناعة دهر وتعاقب أكثر من شيخ ومربي. وقليل هم الناس الذين يحققون الإجماع حولهم فهم مابين معتقد ومنتقد إلا أنه من كرامة المولى لهذا الفقيد أن كان ممن يشهد له الناس جميعهم بالإخلاص، والانخراط في مسالك الصالحين وعباده العاملين متأسيا في ذلك بشيم الرجال من أمثال والده الطالب عبدالله، وعمه الحاج أمحمد وجده الحاج أمحمد دادة وشيخهم جميعا العلامة أحمد العالم بختي.
لقد شاءت إرادة المولى أن صحبته منذ كنت طفلا يزاول الدراسة في المتوسط، فلم يكن يرى في إلا أخا وصديقا بالرغم من فارق السن بيننا، وكان يشعرني دوما بأنه هو المتعلم حتى وإن كان في حقيقة الأمر هو المعلم.
لم تفقده اليوم هذه القرية قصبة مايخاف ولا هذه البلدة المصونة أولف وإنما فقدته مدارس القرآن وطلاب القرآن وأهل القرآن ومجالس الذكر في الهقار ومتليلي وغيرها من الديار، وثماره بإذن الله يانعة ونبات جهده وجهاده أخرج شطأه عبر الطلبة الذين تزدان المسابقات بنجاحهم وعبر الشباب الذين تعمر المساجد بهم، وبالكثير ممن تصدح بذكر الله أصواتهم. ولهذا قبل أن نعزي فيه عائلة البوكادي نعزي أنفسنا بل نعزي الأمة في هذا المصاب، فالرزية فيه كبيرة لأنه ممن بفقدهم يفقد خلق كثير.
نسأل الله أن يغفر ذنبه ويتقبل أعماله ويعلي ذكره ويحشره مع أسلافه من العلماء الأخيار والصالحين الأبرار. ونقول له: لا تخش ضيعة ما تركت لنا سدى فالوارثون لما تركت كثير
البليدة
يوم الاثنين 03 ذي القعدة1439 الموافق 16 جويلية 2018
الفقير إلى رحمة ربه: عبد المجيد البركة قدي