رسالة إلى من أحب : كن إيجابياً
حبيــبي . .
في مستهلّ كلامي إليك، أُقرئك السلام، تحيّة من فازوا برضى الرحمان في الجنان مع أفضل الخلق سيّد الأنام، محمدٌ عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، ذلك لأنّهم أدركوا حقيقة وجودهم، ولماذا أوجدهم خالقهم سبحانه على منصّة مسرح الحياة، فوُفّقوا في أداء رسالتهم وأمانتهم، فكان لهم ما أرادوا وأراد خالقهم عزّ وجلّ أوّلاً. أمّا بعد:
حبيبي، بُعدك عنّي لم يُثني عزيمتي عن الكتابة إليك، حتّى وإن تطوّرت وسائل الإعلام اليوم، إلاّ أنني أرى في السطور التي أكتبها لك بِيَدِي، أحسن قناة لأمرر لك عبرها أنغام نبضات قلبي لتختلط بنغم نبضات قلبك، فيؤلّفان سيمفونيةً عنوانها: " كــن إيجابـــيّاً "، لك منّي كلماتها فاسمعها:
من يعيش لنفسه قد يعيش مرتاحاً، لكنّه يعيش صغيراً ويموت صغيراً، فلا يُسْمَع أنينه، ولا يعبأ بموته أحد، فكأنّه شيءٌ زائدٌ لا فائدة منه. وبالمقابل: من يعيش لغيره يعيش بالأكيد مرتاحاً، فيعيش كبيراً ويموت كبيراً، يقصده الناس في كل شيء، وإن غاب عنهم ينتبهون لذلك فيسألون عنه وعن أحواله، وكم لنا في التاريخ من نماذج عن هؤلاء الكبار، الذين وضعوا بصمتهم في الحياة وأضافوا لها، فاخترعوا وألّفوا وكتبوا وترجموا وتركوا شيئاً يذكرهم ويُخلّد اسمهم، فسطّروا أسمائهم بأحرفٍ من ذهب على سجلّ التاريخ، ذلك لأنّهم كانوا إيجابيين لا سلبيين، يغتنمون فرصة أوقاتهم فيما يعود عليهم وعلى غيرهم بالنّفع، كأنّهم الشمعة التي تحرق نفسها لتضيء للنّاس الطريق.
خليلي، كثيرٌ من النّاس لا يعيشون يومهم الذي هم فيه ولا يتمتّعون به، فترى المَرْءَ تضيع منه أيّامه سُدىً، بل عمره من حيث لا يدري، يُضيّعه بتذكّره آلام الماضي وما حدث له، فيستغرق في تفكيره ويغوص في ماضيه، مع علمه أنّ اليوم الذي ينقضي من حياته لا يمكنه أن يَرْجع إليه ويصحح الخطأ الذي وقع فيه. ويُضيّعه من ناحيةٍ أخرى في ترقّب مستقبله فيستغرق فكره كذلك في غَـدِه الذي لا يضمنه ولا يدري هل سيعيش له أم لا؟ فيبني قصوراً من الأحلام والأوهام، وبالتالي يضيّع اليوم في تذكّر الماضي وآلامه، واستحضار المستقبل وأحلامه فلا يعيش يومه أبداً، وأصاب فولتير عندما قال: << نحن لا نعيش أبداً، بل نحن على أمـل أن نعيش >>.
رسالتي لك حبيبي، ليس أن تنسى الماضي كاملاً مما يؤدّي بك للسقوط في مستنقع الخطأ والفشل مرّات وعدم الخروج منه، ولا أمنعك من أن تُلقي بنظرتك إلى المستقبل مما قد يجعلك أسير ماضيك، بل عليك بالأمل لكن لا تجعله هو كل ما تملك. إنّ كلّ ما بين يديك هو يومك الذي أنت فيه، فحاول أن تستغلّه فيما يُفيدك والجميع.
يُروى عن أحد الصالحين أنّه كان يجلس في حُفرة ويقول: { قَالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ 0 لَعَلّي أَعْمَلُ صَالِحاً } ثُمّ ينـهض قائلاً لنفــسه: ها قــد عُـدْتَ فَأَرِنَا مــاذا تفـعل؟! إنّـه يقــوم بتمثيل دور المُحتضر القادِم على ربّه بصحفية عمله. والمحتضر يمرّ على ذهنه حال احتضاره شريط حياته، فيودّ صادقاً تغيير أو حذف أحداثٍ ومواقف، ويأمل في أن يُضيف لمشواره إضافاتٍ أخرى أكثر خيرية وإيجابيّة، ولكن هيهات هيهات لذلك.
احرص أخي أن تعيش كلّ دقيقة من عمرك بل كلّ ثانية، تذكّر دائماً أنّ المرء عندما يرحل عن هذه الحياة، لا يأخذ معه إلاّ عمله، فيلقى الله تعالى بذلك العمل، فإن كان صالحاً فاز، وإن كان طالحاً خاب، فشمّر على سواعدك، واستغل فرصة عمرك.
فإذا كنت طالب علمٍ، احرص على ذلك واصبر واصطبر، فأنت في طريق الجنّة ورضوان الله تعالى وملائكته، وواصل سيرك على الدرب هذا واخلص في مسيرتك لخالقك، واعمل الخير بما تعلّمت، وحاول أن تساعد ممن معك حتى توصله إلى حيث تريد، خاصة ممن ضلّت بهم السُبُل في هذا الطريق.
وإذا كنت موظفاً أو عاملاً بسيطاً أو غيرهما، فاتّق الله في نفسك واخلص لله تعالى في عملك، واجعل منه وسيلةً تُرضي بها المولى عزّ وجلّ، وسِر بين أقرانك وزملائك حتى تُصبح القدوة والمثل الحسن لهم في الإخلاص والعمل والجدّ والاجتهاد.
رسالتي إليك يا من أُحبّه في الله، أن تكون إيجابياً، فعّالاً، مُحدِثاً الأثرَ الطيّب أينما وحيثما كُنتَ، تماماً كالغيث أينما وقع نفع، وكالشمس حيثما طلّت أضاءت، كن كرسول الله صلى الله عليه وسلّم وصحابته الكرام في أدبهم وأخلاقهم وقوّة إيمانهم، وكن كعبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي والفضيل الورتلاني والعربي التبسي وغيرهم من علماء الجزائر في علمهم وغزارة فكرهم، وكالعربي بن مهيدي وبن بولعيد وكريم بلقاسم وجميلة بوحيرد وحسيبة بن بوعلي وغيرهم من أبطال الجزائر في شهامتهم وقوّة دفاعهم عن الحقّ وإيمانهم بقضيتهم، كن كهؤلاء وغيرهم ممن ماتوا ولم يَمُت ذكرهم.
كن الروح يسري في جسد الأمّة، لا تجد فراغاً إلاّ ملأته، ولا جُرحاً إلا ضمّدته، ولا مُعْوَجاً إلا أقمته وسوّيته، كن ممن يقال عنهم: << مرّوا من هنا . . وهذا الأثر>>.
ما أجمل أن يموت جسدك ولا يموت ذكرُك، وما أجمل أن تَفْتَقِدَك العيون ولا تفتقدك القلوب، لأنّك نقشت اسمك داخلها بأحرفٍ من نورٍ لا يقدر الزمن مهما طال أن يُطْفئها، ولا أن يمدّ يده ليمحها، لأنّك بكل بساطة لم تكن لنفسك، بل أنت للناس جميعهم ومُلكاً ترثه الشعوب.
في الأخير: أخالني قد أطلت عليك، ولكنني قبل أن أضع نقطة النهاية، وقبل أن أُعيد رأس قلمي إلى غطاءه، أرفع إليك طلباً صغيراً، مضمونه أن تصدقني الحديث، وتبدأ بتنفيذ ما جاء في هذه الأسطر، عملاً بقوله تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون} ()، وامتثالاً لرسالة الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله: < وليكن آخر كلامنا بداية العمل >.
يا من أحبّه في الله: أشكرك . . لا تنسانا من خالص دعائك.
من الأستاذ: عـبد الكريم بوقـــرين