أبا قصي,
1- احتجاجك بكلام العرب وحصرك الثروة اللفظية العربية على ما قالوه أمر لا يحتاج نقاشا أصلا لأنه منبن على التغافل عن التطور الذي شهدته العربية في الألفاظ والمعاني والمباني والدلالات على مدى قرون وقرون.
2- قولك بعدم وجود "أعاق" مردود لأنه ورد في لسان العرب "أعاقه إعاقة بمعنى عاقه" ولك أن ترجع إليه إذا شئت.
3- كل إضافة في المبنى يلزم منها إضافة في المعنى. والاستعمال - أي السياقات - هو الذي يفرق بين كلمة وأخرى.
4- وكلمة "أعاق" احتيج إليها للدلالة على معنى معين غير الذي في "عاق" وهذا أمر مطرد في كل اللغات بناء على التطور الدلالي للألفاظ والإضافة فيها.
5- احتاج العرب معاصروهم للتعبير عن "مرض يصيب الإنسان يمنعه من أداء كل وظيفة عضوية في الجسم على النحو السليم" فأضافوه إلى فعل "أعاق" واشتقوا منه "إعاقة" و"معاق" للتعبير عن المرض نفسه وعن المريض, وقد كانوا من قبل يقولون "أطرش وأبكم وأعمى وكسيح ومبتور وأبله" فجمعوا كل هذا الألفاظ في حقل دلالي واحد سموه "الإعاقات البدنية والعقلية", فهل أخطؤوا؟
6- ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل أنشؤوا تركيبا جديدا يراعون به مشاعر هؤلاء المرضى فقالوا "ذوو الاحتياجات الخاصة", وهذا من ديناميكية تعامل المتكلم مع اللغة والعالم.
7- حدتك في النقاش لا مبرر لها واستشهادك بالآية الكريمة في موقف نقاش لغوي لا ضير فيه من الاختلاف لا مبرر له وهما عندي لدليلا استعلاء.
8- بوركت
قال أبو قصيّ :
الكلامُ معَك عقيمٌ ، لأنَّ هذه الحجج التي توردُها ثَمَّ شديدةُ الضَّعفِ ، والتهافتِ ؛ فللعربيةِ قوانينُ وحدودٌ لا يعرفُها مَن تعلَّمها عن غير أهلِها ، ولا مَن غُذّيَ بالمناهجِ الحديثةِ التي يستزِلُّ بها الغربُ أبناءَنا ، ويملئونَ قلوبَهم من غُثائها ؛ حتى إذا رجعوا إلى لغتِهم ، وأرادوا النظرَ فيها ، نظروا بعيونٍ أجنبيةٍ عنها ، وقضَوا فيها بقضاءِ أعدائِها .
إنَّ كلامَك هذا يُثبت خلافَ الكلمةِ التي في توقيعك ، ويشهدُ على انتقاضِها ، وأنَّ معرفةَ لغتينِ ممَّا قد يوجِبُ التخليطَ في نفسِ المتعلِّم ؛ فيَرى الشيئين شيئًا واحدًا ؛ ولا سيَّما من غيرِ البصيرِ بهما . وقد كانَ الحقَّ على من يتكلمُ عن لغةٍ أن يُحاكمها إلى قوانينِها ، وأصولِها . وإنه لقبيحٌ جدًّا بذي ( اللغة والأدب الألمانيين ) أن يتكلم عن ( اللغة والأدب العربيين ) بكلام واحدٍ .
الردّ ,
1- احتجاجك بكلام العجم أصحاب الدراسات الحديثة ، وتسهيلك سبيل التلاعب بالعربية ، وتصرف العامّة فيها لا يحتاج إلى نقاش أصلا ، لأنه منبن على التغافل عن أن اللغة العربية ليست كسائر اللغات ، ومنبن أيضًا على التغافل عن أن تطوّر العربية ليس جائزًا مطلَقًا ؛ ولكن بمسالك معروفة من القياس ، والمجاز ، ونحوها ، ومنبن أيضًا على التغافل عن أنّ الذي شهدته العربية في الألفاظ والمعاني والمباني والدلالات على مدى قرون وقرون = منه تطوّر صحيحٌ مقبولٌ لشهادة القياس له ، أو المجاز ، كـ ( المواطنة ) ، و ( المنطق ) ، ومنه ما هو مردودٌ مرفوض ، ولأجله ألفَ علماء العربية ( وتأمَّل في كلمة " العربية " ) كتبَ التصحيح اللغوي ، كدرة الغواص ، وتقويم اللسان ، ومن المعاصرين ( وهذه كلمة مستحدثة جائزة لجريانها على القياس ) كتاب قل ولا تقل ، ومعجم الأخطاء الشائعة ، ومنبن أيضًا على التغافل الشديد عن أنّا لو قلنا بجواز التطور غير المضبوط ، لأدى هذا إلى ألا تفهم الأجيال القادمة كلامنا ، فضلاً عن أن تفهم كلام الله تعالَى . وهذا بلاءٌ لا أظنّه خافيًا على من ألفَ الكتبَ التي قرأتَها ، ثم جئتَ لتؤذي بها أسماعنا . ولست أعلمُ أكان ذلك بوعي منك أم بدون وعي ؛ لكن الذي أعلمُه أنّ هذا الكلامَ ليس من كلام علمائنا علماءِ العربيةِ ؛ وإنما هو مما دسّه العجمُ إلينا ، وعلموه أبناءنا ، لتكون لغتنا كلغاتِهم ، لا يفهمُ المتأخرُ منا كلامَ الذي قبلَه ، وليحيقَ ما بها ما حاقَ باللغاتِ من قبلها ، كالإنجليزيةِ مثلاً . ومعنى هذا موتُ اللغةِ ، والقضاءُ عليها . وكلامُك هذا منبن أيضًا على التغافل عن أنّه لا ينبغي أن يتكلم في العربية إلا مَن يعرفُها ، ويعرفُ كلام علمائها ، لا مَن لا يَعرف منها إلا بمقدار ما يمكّنه من التفاهُم !
وقد قلتُ في الجزء الأول من الأخطاء اللغوية :
من الخطأ أن تقاسَ العربيةُ على سائرِ اللُّغاتِ ، وأن تكونَ تابعةً لها ؛ فإنَّ اللغاتِ الأخرَ ليسَ لها مُحتَكمٌ ، ولا مرجِعٌ ثابتٌ ؛ فهي تتطوّرُ كلَّ يومٍ من غيرِ أن يعُدّوا هذا التطوُّرَ لحنًا ، أو خروجًا عن الجادّةِ . أما العربيةُ فشأنُها شأنٌ آخرُ ؛ إذ خصَّها الله تعالى بحفظِهِ ، وهيّأ لها البقاءَ ؛ فأصحابُ هذا العصرِ يقرءونَ كلامَ الله تعالى المنزلَ قبلَ أربعةَ عشرَ قرنًا ؛ فيفهمونَ كثيرًا منه ، والإنجليزُ مثلاً يقرءونَ كلامَ شكسبيرَ ؛ فلا يفهمونَه ، على قربِ عَهدِه منهم . والقولُ في التطوّرِ الدّلاليِّ أنه على ثلاثة أضربٍ ؛ الضرب الأول : تطور في زمن الاحتجاج ، سواءٌ كان بملابسة أم بغيرها . فهذا يُعتدّ به ، كتطور كلمة ( بأس ) ؛ فقد كان يراد بها الحرب ، ثم كثرت حتى قيل : لا بأس عليك ؛ أي : لا خوف . الثاني : تطور في غير زمن الاحتجاج . وهذا لا يصحّ إلا بملابسة ، إما مشابهة ، أو غير مشابهة ؛ نحوُ تسمية صاحب العلم بـ ( الشيخ ) ؛ فإن هذا من باب الاستعارة ؛ إذ شُبه العالم بكبير السن بجامع لزوم الاحترام والتوقير في كلٍّ . ثم إن هذا الضرب من التطور إما أن يظل مجازًا ، كـ ( البدر ) بمعنى ( الحسنِ الجميلِ ) ، وإما أن يكون حقيقةً عرفيةً إذا اشتهر ، وأصبح هو السابقَ إلى الذهن عند إطلاقه لدى الناس ، كـ ( الشيخ ) بمعنى العالم . الضرب الثالث : تطور في غير زمن الاحتجاج بغير ملابسة . فهذا يُطّرح ، ولا يُعتد به ، وهو خطأ في اللغة وضلال عن القصد فيها . وهذا بيّن معلوم عند علماء العربية جميعًا ؛ ولهذا ألفت الكتب في التنبيه على ما يلحن فيه العامة والخاصة ؛ من ذلك كتاب ( إصلاح المنطق ) لابن السكيت ، و ( الفصيح ) لثعلب ، و ( ما تلحن فيه العوام ) للكسائي ، و ( فقه اللغة ) للثعالبي ، و ( درة الغواص في أوهام الخواص ) للحريري ، و ( تقويم اللسان ) لابن الجوزي ، و ( تثقيف اللسان ) لابن مكي الصقليّ ، و ( لحن العوام ) للزبيدي . فإن قيلَ : إنَّ منعَ التوسع في التطوّرِ الدلاليّ يجعلُ اللغةَ ميّتةً هامدةً . قلتُ : ليس هذا بحقٍّ ؛ فإنَّ ثَمَّ مسالك كثيرة من الاشتقاق ، والتصريف ، والقياس . بلِ الذي يسيءُ إلى العربيةِ ، ويُسرِع في القضاءِ عليها أن يُفتحَ بابُ التطوّر على مصراعيهِ ؛ فيصيبَها ما أصابَ اللغاتِ مِن قَبلِها .