تداعيات جائحة كورونا على حرّية الصّحافة
تجاوز العوارض المؤقّتة لتقييد النّشاط الصّحفي والإعلامي
كانت جائحة كورونا سبباً مباشراً في الاهتمام الكبير بدور وسائل الإعلام في توعية السّكان بانتشار فيروس COVID-19 وإجراءات السّياسة الصّحية، ولكن من ناحية أخرى كانت سبباً في التّعامل مع المعلومات المضلّلة خاصّة على شبكات التّواصل الاجتماعي، فالقيادات السّياسية على وجه الخصوص التي يتعيّن عليها إيجاد حلول للحدّ من انتشار الجائحة، لها مصلحة في إيجاد الدّعم لقراراتها وإجراءاتها للتّغلب على الأزمة كمواجهة انتشار الفيروس الذي لا يمكن وقفه، والعدد المتزايد من الإصابات بسرعة لا يمكن السّيطرة عليها، ولكن أيضًا مع عدم اليقين بشأن التّدابير الفعّالة لمواجهة الوباء، ولذلك سعت الحكومات إلى دعم وسائل الإعلام لكسب قبول إدارة أزماتها، وبعد ذلك في وضع جديد على الجميع، تعرّضت وسائل الإعلام التي تظلّ وفيّة لدورها التّوعوي لخطر الاتّهام بانعدام التّضامن في مواجهة التّهديدات الوطنية.
فقد وجدت جائحة كورونا ضحيّة أخرى تمثّلت في "حرّية الصّحافة"، ليس فقط لأنّ السّلطات الحاكمة تخشى انتقاد وسائل الإعلام لسياساتهم في التّعامل مع الوباء، بعد استخدامهم -في جميع أنحاء العالم- موقفاً واضحاً لوضع حدّ لوسائل الإعلام ومنعها من أداء مسؤوليّاتها العامّة، بل وصلت هذه التّدخّلات لحدّ حرمان الصحفيّين من الوصول إلى المعلومات، وفرض أشكال مختلفة من الرّقابة، وصولاً إلى التّهديدات الجسديّة وإغلاق بعض المؤسّسات الإعلامية. ومن خلال وضع الصّحة العالمية على رأس جدول الأعمال، يمكن للقيادات السّياسية الاعتماد على الإحساس العام بالمجتمع، حيث لم يكن القادة في الدّول الاستبدادية هم فقط من اغتنموا الفرصة لإحكام السّيطرة على وسائل الإعلام، وتقويض استقلاليّتهم. وضمان عدم يقين الأخبار بشأن تطوّر الجائحة، وتقليل الانتقادات المحتملة حول تدابير مكافحة الفيروس، بل انتقلت هذه المظاهر إلى دول لا يمكن تصوّر استهدافها لحريّة الصّحافة.
لقد شكّل فيروس COVID-19 منذ بداية انتشاره تحدّياً لوظيفة نقل المعلومات عبر وسائل الإعلام، كما أكدّ تقرير الأخبار الرّقمية لعام 2020 الصّادر عن معهد رويترز من ناحية أخرى لجوء النّاس في جميع أنحاء العالم إلى وسائل الإعلام بشكل متزايد خلال فترة الجائحة، وكانت وسائل الإعلام التّقليدية هي الأكثر متابعةً، وبشكل خاصّ القنوات التلفزيونية التي استفادت أكثر من هذا التّغيّر العالمي، فقد انعكست حاجة الجمهور إلى المعلومات في زيادة غير عادية لاستهلاك الأخبار مع بداية الوباء في مارس 2020، وهذا الأمر يتعلّق بجميع الفئات العمرية، في حين تمتّعت وسائل الإعلام التّقليدية والاجتماعية بنموّ جمهورها، ويظهر ذلك جليّاً في حصول التّلفزيون الشّبكي على أعلى النّسب المئوية لمتابعة الأخبار بشكل متكرّر، ويُستنتج من ذلك أنّ جائحة كورونا أعطت أهميّةً أكبر للتلفزيون، كما توصّلت بعض الدّراسات الاستقصائية في الدّول المتقدّمة إلى تحوّل الجمهور بشكل تفضيلي لوسائل الإعلام المهنيّة بما في ذلك عروضهم عبر الإنترنت كالبثّ المباشر للقنوات التّلفزيونية والنّسخ الإلكترونية للصّحف، في حين أن استخدام شبكات التّواصل الاجتماعي كان أقلّ أهمّية في إطار معرفة أخبار الجائحة.
تقييد حرّية وسائل الإعلام:
نظرًا لأنّ التّعامل مع تفشّي فيروس كورونا كان أهمّ موضوع بالنّسبة لجمهور وسائل الإعلام، وكانت التّوقّعات الأوّلية عاليةً بالنّسبة للحكومات لاحتواء الفيروس وإحباط عواقبه الاقتصادية والاجتماعية، تركّز اهتمام الجمهور على الوباء بينما تراجعت أهمّية القضايا الأخرى، ولم يمض وقت طويل حتى ظهرت الشّكاوى الأولى حول جميع أنواع التّدخل في حرّية الصّحافة، إذْ لم تكن التّجاوزات مرتبطةً فقط بتغطية الوباء، ولكنّها عكست عدم تسامحٍ عام مع النّقد، ممّا يشير إلى أنّ الحكومات كانت تستغلّ الإلهاء لتقليص حرّية الصّحافة. ففي ربيع 2020 نشرت المنظّمات الدّولية التي تركّز على حماية حقوق الإنسان والحرّيات المدنيّة، تقييمات مثيرة للقلق حول كيفيّة استخدام الحكومات لوضع الجائحة بهدف قمع وسائل الإعلام، وبعد ذلك في اليوم العالمي لحريّة الصّحافة 3 مايو 2020م، سلّط الأمين العام للأمم المتّحدة António Guterres الضّوء على الدّور المهمّ والبارز للصّحافة الحرّة والمستقلّة لا سيما في ظلّ الوباء، وليس أقلّها مواجهة موجة المعلومات المضلّلة التي بيّنت أنّ مصداقية الأخبار هي أوّل ضحية خلال فترات الأزمات الإنسانية، وتتمثّل أبرز تداعياتها على الصّحافة في ما يلي:
الاعتداء اللّفظي والجسدي على الصّحفيين:
تصدّرت قائمة انتهاكات حرّية الصّحافة التي سجّلها المعهد الدّولي للصّحافة، اعتداءات لفظية وجسدية على الصّحفيين خلال فترة الجائحة، كان أغلبها في أوروبا وتحديداً في الدّيمقراطيات التي يُفترَض أنّها توفّر حماية حرّية وسائل الإعلام بشكل جيّد، ومعنى ذلك أيضاً أنّه لم تعد فقط الحكومات التي تهدّد حرّية الصّحافة، ولكنّ الهجمات على حرّية الصّحافة تأتي أيضًا من جهات أخرى، خصوصاً مع تصاعد نشاط التوجّهات اليمينية التي شوّهت سمعة وسائل الإعلام التّقليدية باعتبارها "الصّحافة الكاذبة" والنّاشرة لـ"الأخبار المزيّفة"، إضافةً إلى جعل مصداقيّتها موضع شكّ وتساؤل. ومع استمرار تفشّي فيروس COVID-19، وعمليّات الإغلاق المتعدّدة، والقيود المصاحبة على الحقوق الأساسية، تزايدت الانتقادات للإجراءات الحكومية، تمّ السّماح بالمظاهرات العامّة التي شهدت اعتداءات لفظيّة وجسديّة بشكل متكرّر على الصّحفيّين الذين أرادوا تغطيتها، وبالتّالي دخلت في تناقض مع حقّ أساسي آخر، فحسب إحصائيات المعهد الدّولي للصّحافة بألمانيا؛ تعرّضت الكثير من وسائل الإعلام لضغوط كبيرة اعتداءات على صحفيّيها خلال فترة الجائحة من قبل الجماعات اليمينية التي لم تستطع الحكومات أن تمنع إساءاتها اتّجاه مهنة الصّحافة، وكانت الهجمات العنيفة على العاملين في مجال الإعلام أثناء المظاهرات بسبب إجراءات الحكومات اتّجاه مقاومة انتشار الفيروس، حيث كان معظمها من قبل المتظاهرين، وبعضها أيضًا من حدث قبل الشّرطة.
الاعتقالات والتّحقيقات الأمنية:
حسب نتائج دراسات صادرة من المعهد الدّولي للصّحافة، تمّ تسجيل معظم أحداث الاعتقالات والتّحقيقات التي تعرّض لها الصّحفيون في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، ثمّ تأتي إفريقيا في المرتبة الثانية، وتليهما أوروبا؛ فتصدّر منطقة آسيا والمحيط الهادئ لهذا التّرتيب ليس مفاجئًا، بالأخصّ دولة الصّين التي تعدّ واحدة من الدّول السّيئة السّمعة في مؤشرّات حرّية الصّحافة، وتتّخذ إجراءات صارمة ضدّ الصّحفيين الذين لا ينسجمون مع توجّه السّلطة الحاكمة، كما تشمل هذه المنطقة أيضًا دولة الهند التي تصنّف أكبر ديمقراطية في العالم، ورغم ذلك سجّلت فيها منظّمة Freedom House تجاوزات مُقلِقة على معايير الدّيمقراطية وحرّية التّعبير، وهذا ما جعل الهند تحتلّ المرتبة 142 عالمياً على مؤشر منظّمة مراسلون بلا حدود RSF خلال بداية انتشار الجائحة، كما حاول رئيس الوزراء الهندي Narendra Modi التّأثير على وسائل الإعلام من خلال طلب تغطيات إيجابية لسياساته بشأن فيروس كورونا، وعندما طلبت الحكومة الهندية من محكمتها العليا إلزام وسائل الإعلام بنشر المعلومات في حالة حصولها على تصريح حكومي فقط، رفضت المحكمة العليا القيام بذلك، ولكنّها أصدرت تعليمات لوسائل الإعلام تلزمها باستخدام الإعلانات الرّسمية في تغطيتها لأي خبر يتعلّق بفيروس COVID-19، ووُجِّهَت بعد ذلك انتقادات عديدة للحكومة بسبب استخدامها تلك التّعليمات ذريعةً لإجراء التّحقيقات الأمنية مع الصّحفيين أو اعتقالهم.
تقييد الحصول على المعلومات ومنع الوصول إليها:
اعتبرت العديد من الحكومات إجراءات التّقييد والمنع في الحصول على المعلومات وسيلةً ملائمةً للحفاظ على نتائج القرارات والتّدابير السّياسية، والتّحكّم في التّقارير الإعلامية، وحتّى الدّيمقراطيات العريقة شهدت بعض النّزاعات للتّعامل بشكل حذر مع وصول وسائل الإعلام إلى المعلومات، ففي العديد من المؤتمرات الصّحفية تمّ استبعاد الصّحفيين غير المرغوب فيهم رغم التّوصية بإدارة الأزمات لإبلاغ الجمهور عن كلّ ما يهمّهم عنها، والاعتراف أيضًا بأي شكوك لتجنّب فقدان المصداقية والثّقة، فلذلك قامت العديد من الحكومات بتقييد الوصول إلى المعلومات أثناء أزمة جائحة كورونا، وبهذه الطريقة تمكّنت بعض الحكومات من إقصاء النّقّاد، وإبقاء بيانات الأزمة غامضة، وتجنّب الاستفسارات الصّحفية المزعجة.
ومع ذلك فإن القيود التي فُرِضت على الوصول إلى المعلومات خلال فترة الجائحة تمثّلت في أشكال متعدّدة، وهي لا تنطبق فقط على المعلومات الرّسمية التي تقدّمها سلطات الدّولة، بل تضمّنت أيضًا معلومات المنظّمات والمؤسّسات الأخرى المشاركة في مكافحة الوباء خصوصاً الصّحّية والطّبّية. بالإضافة إلى الإخفاء المتعمّد لإجراءات إدارة الأزمة وتطوّر الجائحة، فقد كان العديد من موظّفي تلك المنظّمات والمؤسّسات يعملون من منازلهم، ولم تكن لديهم دائمًا إمكانية الوصول إلى السّجلات اللّازمة للإجابة على استفسارات وسائل الإعلام وتلبية متطلّبات حرّية الوصول إلى المعلومات. وبخصوص الأساليب المُستخدَمة في حرمان الصّحفيين من الوصول إلى المعلومات، تضمّنت حوالي 88٪ من الحالات في منطقة آسيا والمحيط الهادئ إلغاء اعتماد البطاقات الصّحفية أو رفضها، وحوالي 10٪ تعلّقت بقيود السّفر أو الحظر، أمّا في أوروبا تصدّر أسلوب الحدّ من الوصول إلى المسؤولين والمؤتمرات الصّحفية القائمة بحوالي نصف الحالات، وما يقرب من نسبة 30٪ من الحالات المتعلّقة بإلغاء قوانين حرّية المعلومات أو تمديد المواعيد النّهائية التي يجب الرّدّ خلالها على الطّلبات، كما بلغت نسبة رفض إصدار البطاقات الصّحفية حوالي 20٪.
الرقابة:
تحتلّ الرّقابة المرتبة الرابعة ضمن أشكال انتهاكات حرّية الصّحافة ووسائل الإعلام، حيث تشمل عمليات حظر النّشر، وأوامر الإزالة والحذف الإجباري، وهي انتهاكات تمثّل حوالي 80٪ من الحالات، إضافةً إلى بعض حالات الإيقاف الإجباري لنشاط وسائل الإعلام وحجب مواقعها الإلكترونية. وضمن هذا الإطار تحتلّ أوروبا المرتبة الأولى، حيث مثّل فيها حظر النّشر وأوامر الإزالة أكثر من 93٪ من الحالات. كما ساد هذا النّوع من التّدخّل أيضًا في منطقة آسيا والمحيط الهادئ والأمريكتين، أمّا في منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا فكانت الرّقابة تُمارس بشكل أساسي من خلال الإغلاق القسري لوسائل الإعلام.
تنظيم الأخبار الكاذبة
ساهم انتشار جائحة كورونا إلى نشر حجم هائل من المعلومات المضلّلة وأكاذيب نظريات المؤامرات، وهو ما يمكن تسميته "جائحة المعلومات المضلّلة" التي رافقت انتشار فيروس COVID-19، فهذا ما دفع العديد من الحكومات إلى القتال على جبهتين؛ ضد فيروس كورونا وضد المعلومات الكاذبة. لكن تمّ استخدام هذه الأخيرة من طرف بعض الحكومات أيضًا لإسكات الانتقادات المُزعِجة التي كانت تصدر عن وسائل الإعلام، فقد احتلّ تنظيم الأخبار الكاذبة والمزيّفة المرتبة الخامسة بين مظاهر انتهاك حرية وسائل الإعلام التي سجّلها تعقّب المعهد الدّولي للصّحافة (IPI Tracker)، وتفسير ما يُعتبَر خبراً مزيّفاً متروكٌ للسّلطات التي يمكن أن تُعلِن أيّ انحراف عن المعلومات الرّسمية، أو انتقاد الإجراءات الحكومية بأنّها أخبار كاذبة، ومعاقبة وسائل الإعلام تبعاً لذلك.
غالبًا ما كان تنظيم الأخبار الكاذبة خلال فترة جائحة كورونا جزءًا من تشريعات الأزمات الطّارئة التي أصدرتها العديد من الحكومات، للحصول على أفضل فرص صنع القرار في حالة عدم السّيطرة على انتشار فيروس كورونا، وذلك ما سمح لها بتجاوز المسار التّشريعي المُعتاد الذي يتطلّب موافقة المجالس البرلمانية ويأخذ وقتاً أطول، فالجوانب السّابقة كانت بمثابة إعلان عن تقبّل الصّحافة الرّقمية بعد تقييد نشاط وسائل الإعلام التّقليدية، وإعلانٍ آخر بأنّ الوباء كان فرصةً مرحّبًا بها للتّضييق على حرّية الصّحافة.
ما يمكن استخلاصه حول هذا الموضوع، أنّ التّراجع الكبير في عائدات الإعلانات الصّحفية أدّى إلى تدهور الوضع الاقتصادي للقطاع الإعلامي في جلّ دول العالم، زيادةً على الإجراءات التّقشّفية التي أضعفت دور وسائل الإعلام التّقليدية في مجال الحرّية والدّيمقراطية، وهذا ما جعل مخطّطات المساعدات المؤقّتة التي قدّمتها العديد من الحكومات إلى عدد معتبر من المؤسّسات الإعلامية، وسيلةً مهمّةً لفرض التزامات جديدة على العمل الصّحفي، ويُتوقَّع أن لا تختفي عواقب هذه المساعدات والتّدخّلات الأخرى في مجال الإعلام عندما تنحسر الجائحة، خصوصاً بعد تركيز العديد من إجراءات الدّعم للصّحف على الرقمنة ونشر المحتوى الرّقمي بدل الورقي، وهذا ما وُصِف في تقرير Reuters Digital News 2021 بأنّ فيروس كورونا هو آخر مسمار في نعش الطّباعة.
كانت حرّية الصّحافة تتدهور في جميع أنحاء العالم منذ بداية انتشار فيروس كورونا، ولم تساهم في ذلك الأنظمة الاستبدادية فقط التي تخشى الصّحافة الحرة، بل ساهمت البلدان التي تخضع للحكم الدّيمقراطي في ذلك بشكل متزايد، حتى تعرّضت فيها وسائل الإعلام التّقليدية للضّغوط وتقييد النّشاط الصّحفي بعدةّ طرق. ومنذ تسجيل تلك التّحولات، صار التّدخّل في حرّية الصّحافة خلال فترة جائحة كورونا وتحت ستارها هو أكثر من مجرد عوارض جانبية ومؤقّتة، ولكنّه مؤشّر جديد على تغيّر معايير الدّيمقراطية في العالم، ومحاولة فصل حرّية الصّحافة والإعلام منها.
كتابة: الأستاذ عبد الرحمان قدي