ظهور روح العصبية:
ظهرت روح العصبية بين القبائل العربية عقب وفاة يزيد بن معاوية غير أنها لم تكن من الشدة بحيث تؤثر في انحلال الحزب الأموي الذي ظل حافظًا لكيانه كحزب سياسي يناضل خصومه من الأحزاب الأخرى إلى أن كانت خلافة عمر بن عبد العزيز التي تعتبر فترة انتقال بين حال القوة والتماسك وحال الضعف والتفكك الذي اعترى ذلك الحزب ، فقد كان عمر صالحًا عادلاً قضى فترة خلافته في إصلاح ما أفسده من سبقه من خلفاء بني أمية حتى نال رضاه جميع العناصر الثورية ، فلم يتعصب لقبيلة دون أخرى ، ولم يوِّل واليًا إلا لكفايته وعدالته، سواء أكان من كلب أو من قيس، فسكنت في عهده الفتن التي كانت تنتاب الدولة وتكاد أن تذهب بريحها..
فلما توفى عمر بن عبد العزيز خلفه يزيد بن عبد الملك، فاستقبل بخلافته فتنة كان لها أسوأ الأثر في حزب بني أمية، وكانت هذه الفتنة في الواقع نزاعًا بين عرب الشمال وعرب الجنوب أو بين مضر واليمن، ولما كان الخليفة من عرب الشمال لم يتورع عن خوض غمار تلك الفتنة..
وكانت هذه الفتنة سببًا في القضاء على أفراد بيت المهلب بن أبي صفرة، فقد قُتِلَ بعضُهم في الحرب، وحمل بعضهم في الأغلال إلى يزيد بن عبد الملك فأمر بهم فقتلوا جميعًا..
وقد أخلصت أسرة المهلب في خدمة بني أمية، فأبلى هو وأبناؤه في حرب الأزارقة من الخوارج بلاءً حسنًا، كما حارب أهل خراسان والخزر والترك، وخلفه أبناؤه فكانوا مثله في الشجاعة والنُّبل والفضل ، فمدحهم الشعراء ، وتغنَّى بفضلهم الركبان، وقصدهم الشعراء وذوو الحاجات، فأجزلوا لهم العطاء، ووصلوهم بالصلات الجمَّة، فعظم أمرهم ، وبعد صيتهم ، ونبه شأنهم ، فكانوا غُرَّة في جبين الدولة الأموية ، كما كان البرامكة في دولة بني العباس؛ لذلك لا ندهش إذا انحاز إليهم العنصر اليمني الذي أصبح منذ ذلك الحين خطرًا يهدد كيان حزب بني أمية، وقد زَجَّ يزيد بنفسه في تلك العصبية التي عادت سيرتها الأولى يوم مرج راهط، وأخذ الخلفاء يعملون على توسيع مسافة الخلاف بين هذين العنصرين اللذين كانا عصب دولتهم ومصدر قوتهم، فنراهم ينضمون إلى القيسية حينًا وإلى اليمنية حينًا آخر..
كان طبيعيًا بعد هذه الحاثة أن يأخذ يزيد جانب القيسيين، فولَّى أخاه مسلمة -الذي قضى على ثورة يزيد بن المهلب- على المشرق، ثم ولى عمر بن هبيرة وهو قيسي واصطبغت الدولة كلها بالصبغة القيسية المضرية ، وأصبح العنصر اليمني ضعيفًا لا يملك من الأمر شيئًا..
ولما توفي يزيد بن عبد الملك وخلفه أخوه هشام، رأى أن القيسية قد علت كلمته، فخاف ازدياد نفوذها على الدولة، فعمل على التخلص منهم والانحياز إلى اليمنية ليعيد التوازن بين العنصرين: اليمني والقيسي، فعزل العمال المضريين وولى مكانهم بعض اليمنين؛ فولى خالد بن عبد الله القسري على العراق، وولى أخاه أسدًا على خراسان؛ وبذلك أخذ العنصر اليمني يستعيد قوته ، وأخذ العنصر القيسي في الضعف، وتعصب خالد وأخوه لليمنية فأخذوا ينتقمون من المضريين..
على أن هشامًا لم يتبع سياسة ثابتة بإزاء القبائل المختلفة، فإنه بعد أن انحاز إلى جانب اليمنيين لم يلبث أن تحول عنهم إلى المضريين وولى منهم العمال؛ فولى يوسف بن عمر الثقفي العراق، ونصر بن يسار خراسان، وكذلك فعل في بلاد الأندلس..
وكان مقتل خالد بن عبد الله القسري زعيم اليمنية من أقوى الأسباب التي عجَّلت بسقوط حزب بني أمية، فإن اليمنية الذين لم ينسوا للدولة قضاءها على آل المهلب فُوجِئوا بقتل زعيمهم خالد بن عبد الله لاتهامه بممالأة العلويين وإغداقه عليهم حتى خرج زيد بن علي زين العابدين، كما اتهم بالزندقة والإلحاد فعادت القلاقل سيرتها الأولى، وعمل اليمنية على التخلص من سيادة الأمويين..
ولزم الوليد بن يزيد بن عبد الملك جانب المضريين لأن أمه كانت منهم ، وأقصى العنصر اليمني، فأثار ذلك عوامل السخط والغضب في نفوس اليمنية عليه بعد أن قتل زعيمهم وأقصاهم من مناصب الدولة؛ فأخذوا يدبرون المكائد لقتله وسخط عليه عامة الناس، فانتهز اليمنيون هذه الفرصة وثاروا عليه، وانضم إليهم يزيد بن الوليد بن عبد الملك الذي كان يُظهِر التنسك والتواضع، فقتلوه في جمادى الآخرة 126هـ وبايعوا يزيد..
ولم يضع قتل الوليد حدًا للنزاع الذي قام بين أفراد البيت الأموي ، وظهر بين العنصرين اليمني والمضري ، بل ساعد على تفاقم ذلك النزاع؛ فإن يزيد لم يكد يعتلي عرش الخلافة حتى أخذ بسيرة أسلافه فانضم إلى اليمنيين ولزم جانبهم، وأخذ يولي العمال منهم لأنهم ساعدوه على الوصول إلى الخلافة..
وأطلق اليمنيون يدهم في الإساءة إلى المضريين الذين ثارت ثائرتهم، فأشعلوا نار الثورة في حمص، وانضم إليهم يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية وغيره من أفراد البيت الأموي، كما ثاروا في فلسطين بزعامة يزيد بن سليمان بن عبد الملك، وحذا أهل الأردن حذوهم بزعامة محمد بن عبد الملك ، غير أن يزيد بن الوليد استطاع بمساعدة اليمنيين أن يتغلب على هؤلاء جميعًا فأخضعهم ، وزج بزعمائهم من أهل بيته في أعماق السجون..
ثم توفي يزيد بعد أن حكم ستة أشهر (126 هـ) فولي الخلافة بعده أخوه إبراهيم، وكان يزيد قد عهد إليه بالخلافة التي فقدت ما كان لها من هيبة في نفوس المسلمين، ولم يلقَ إبراهيم الاحترام الذي كان لمن سبقه من الخلفاء ، حتى كان الناس يسلمون عليه بالخلافة تارة وبالإمارة تارة أخرى، وطورًا لا يسلمون عليه بواحدة منهما..
سار مروان بجنوده من الجزيرة يريد الشام مطالبًا بدم الوليد بن يزيد، وتظاهر بعزمه على إعادة الخلافة إلى ابنه إبراهيم وسرعان ما انضمت إليه القيسية لمناهضة اليمنية التي دبرت مؤامرة لقتل الوليد، فأخذ إبراهيم يحشد الجيوش لقتال مروان بن محمد عامل الجزيرة وأرمينية ، ولكن مروان كان قائدًا شجاعًا حنكته الحروب مع الخزر والترك فاستطاع أن يتغلب على جنود إبراهيم ، وهزمهم شر هزيمة ودخل الشام ، وفرَّ إبراهيم وكثير من أنصاره..
وكان مروان يريد أن تكون الخلافة في وَلَدِ الوليد، ولكن اليمنيين عمدوا إلى ابني الوليد فقتلوهما في السجن خوفًا من أن يليا الخلافة فيقتصا منهم، وشهد محمد السفياني بأنهما جعلا الخلافة من بعدهما لمروان، ثم قال السفياني لمروان: ابسط يدك أبايعك، فبايعه وتبعه أهل الشام، وبذلك أصبح مروان خليفة المسلمين عام 127 هـ وفي عهده ثارت روح العصبية في جميع أنحاء الدولة الأموية ، وتقوَّض بناء البيت الأموي وأَشْرَفَ على الزوال.
على أن مروان سار سيرة سلفه فتعصب للقيسية ، وطالب اليمنية بدم الوليد الذي قتلوه انتقامًا لخالد بن عبد الله القسري فانتفض أهل حمص بزعامة ثابت بن نعيم ، وانضم إليهم أهل تدمر برئاسة الأصبغ بن ذؤالة الكلبي غير أن مروان استطاع أن يتغلب عليهم ويهزمهم ؛ فأرسل مروان جيشًا أحلَّ بهم الهزيمة وقتل يزيد؛ فخلصت له دمشق ، وحذت اليمنية حذوهم في فلسطين، فأرسل إليهم مروان جيشًا قضى عليهم..
ولم يكد الأمر يستتب لمروان في بلاد الشام حتى خرج عليه بها سليمان بن هشام بن عبد الملك، ودعا أهلها إلى خلعه فانضمت إليه اليمنية فسار إليه مروان وهزمه بعد حروب طويلة، وفرَّ سليمان إلى العراق وانضم إلى الخوارج لمناوأة مروان، كما انضم إليه عبد الله بن عمر بن عبد العزيز..
هذه هي حال العصبية في الشام وقد ساعد على قيام الثورة فيها أن أكثر أهلها كانوا من العنصر اليمني، وربما كان ذلك هو السبب الذي حدا مروان إلى عدم اتخاذها مقرًا لملكه، والانتقال إلى الجزيرة حيث أقامت القيسية الذين كانوا عماد دولته..
وأما بلاد العراق فإن الحالة لم تكن فيها أحسن مما كانت عليه في بلاد الشام ، فقد اشتعلت نار العصبية في هذه البلاد حتى ظهر الضحاك بن قيس الخارجي الذي استولى عليها، كما استولى فريق من الخوارج على بلاد اليمن والحجاز بقيادة المختار بن أبي عبيدة..
وهكذا أصبحت البلاد مرتعًا للفتن والاضطرابات، وشغل إخمادُ هذه الفتن مروانَ، فلم يلتفت إلى خراسان وما كان يجري فيها من بثِّّ الدعوة العباسية التي اشتد أمرها وعظم خطرها، ولم يلبث أن باغتته الرايات السود من خراسان ، وطاردته وقضت على جيشه ؛ ففر إلى مصر حيث أدركه عبد الله بن علي العباسي ثم أخوه صالح بن علي الذي قتله 132 هـ، ويعتبر القضاء على بني أمية قضاء على نفوذ العرب الذين كان الأمويون يعتمدون عليهم دون سواهم..
انغماس بعض الخلفاء في الترف:
كان لانصراف بعض خلفاء بني أمية إلى حياة البذخ الترف اللذين أخذوهما عن البلاط البيزنطي أثر كبير في سقوط دولتهم، فقد اشتهر يزيد بن معاوية بحبه للّهو..
أما يزيد بن عبد الملك فإنه لم يكن أحسن حالاً من يزيد بن معاوية ، فقد كان كما ذكر البلخي صاحب كتاب "البدء والتاريخ" صاحب لهو فقد شغف بجارية تسمى حبابة واشتهر بذكرها، كذلك اشتهر ابنه الوليد باللهو والمجون وكان شاعرًا مجيدًا له أشعار كثيرة في العتاب والغزل..
تعصب الأمويين للعرب:
كانت الدولة الأموية دولة عربية لحمًا ودمً، ومن ثَمَّ تعصب الأمويون للعرب والعروبة، وأخذوا ينظرون إلى الموالي نظرة الاحتقار والازدراء، بما أيقظ الفتنة بين المسلمين ، وبعث روح الشعوبية في الدولة الإسلامية، وكان منشأ تلك الحركة اعتقاد العرب أنهم أفضل الأمم ، وأن لغتهم أرقى اللغات..
وإذا نظرنا إلى حركة الشعوبية ألفيناها حربًا سلمية اشتبكت فيها الألسنة والأقلام اشتباكًا لا يقل أثرًا عن اشتباك الأسنة والرماح، وترجع هذه الحركة ـ على ما يظهر ـ إلى الوقت الذي دخل فيه العرب بلاد الفرس وغيرها من بلاد الأعاجم، ولما جاء الأمويون حملوا لواء هذه الحركة طوال خلافتهم، وانحازوا إلى العرب ولم يساووا بينهم وبين الموالي، فأجمع هؤلاء أمرهم وثاروا على الأمويين في عهد عبد الملك بن مروان، فأرسل إليهم الحجاج بن يوسف الثقفي ليقضي على حركاتهم..
ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة أمر عماله بوضع الجزية عمن أسلم سواء كان عربيًا أو غير عربي، ولقد نجحت سياسته في حياته، ثم تبدلت الحال بعد وفاته، فعاد الأمويون يفرقون في المعاملة بين العرب والموالي.
فلا عجب إذا أثارت هذه المعاملة حنق الموالي وسخطهم على الأمويين، وأخذوا يتلمسون الفرص للإيقاع بهم، فانضموا إلى المختار ثم إلى الخوارج ، واشتركوا في فتنة عبد الرحمن بن الأشعث ، كما ثاروا مع يزيد بن المهلب للقضاء على هذه الدولة، فلما نشط دعاة العباسين انضموا إلى الدعوة العباسية لينالوا حقوقهم المهضومة، وقد فطن العباسيون إلى ما كان يضمره الموالي لبني أمية ودولتهم من كراهة فاستعانوا بهم في نشر الدعوة لهم..
انقلاب الخلافة الإسلامية إلى الملك العضوض:
فبعد أن كان الخليفة يُختار من مجموع المسلمين أو من أهل الحل والعقد بعد توافر عدة كفاءات به، وعلى رأسها الجانب الديني من التقي والصلاح، أصبحت الخلافة ملكًا يرثه الابن من أبيه، والأخ من أخيه، ومن استطاع الغلبة..
تخلِّي خلفاء بني أمية عن القيادة الدينية:
كان من صميم عمل الخليفة الحج بالناس والإمامة في الأعياد والجمع والصلوات إلا إذا طرأت له الأعذار من مرض أو نحوه..
وهذه القيادة الدينية كانت تقرب الخليفة من الرعية، وتشعرهم بقربه منهم، وحرصه على سلامة دينهم، وتقرب طائفة العلماء والزُّهَّاد من الخليفة فتصلح الدنيا والدين معًا..
فكان خلفاء بني أمية في بدء عهدهم يَؤُمُّون الناس، فخلف من بعدهم من أخَّر في إقامة الصلوات، ثم ازداد الأمر سوءًا عندما تخلى الخلفاء عن القيادة الدينية وأنابوا عنهم الولاة والأمراء..
ويتمثل المنصب الديني ـ أيضًا ـ في القيام بدور القضاء، والفصل بين الناس في الخصومات، وكان خلفاء بني أمية يباشرونه بأنفسهم في بدء خلافتهم، ولا يجعلونه إلى أحد سواهم ، إلا إذا شغلوا بجهاد أو نحوه من الأمور العظام..
فلما طال الزمان ترك الخلفاء القضاء للأمراء، والذين بدورهم أنابوا غيرهم، مما أضعف من شخصية الخليفة في أعين الرأي العام..