السفارة لغة: السعي في الصلح بين القوم، والسفير: الرسول، والمصلح ، وسفر بينهم سفارة وسَفارة: أصلح ، وفي حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال لعثمان بن عفان رضي الله عنه: إن الناس استسفروني بينك وبينهم ، فالسفير من يسعى في الصلح بين الأقوام، ومن يسافر في حوائج قومه، وكل رسول سفير.
ولعل لطبيعة المرحلة الرعوية التي عاشها عرب الجاهلية فوق أرض بائسة أثراً هاماً في نشوء السفارة وعلو مقامها، حيث اتسمت حياتهم بالفوضى والاضطراب والاحتراب، ولا سيما في القرن الذي سبق ظهور الإسلام، ولم يكن للعرب خيار في التغور والاقتتال، فقد تضافرت عوامل طبيعية ومعاشية فضلاً عن غياب الشعور القومي الجامع، وسيادة العصبية القبلية، لتدفع بالحرب على أرض العرب، وتدفع بالعرب على شفا هوة، فكثرت الأيام والوقائع ، واستحكم الضعف في القبائل، وتشتت الألفة، وتباينت الأهواء.
وقد اقتضت تلك الحياة الصاخبة أن ينشط السفراء، وأن تتنوع مجالات سعيهم، فكثرت السفارات، وكان للسفراء أثر هام في حياة الجزيرة العربية.
فضل السفارة والسفير:
تتطلب السفارة دراية وحنكة وحكمة، لعلو المطلب وخطورة النتائج، ولقد عرفت العرب فضلها وعلو مقامها لما تحقق من الغايات التي تعجز عن تحقيقها أزجة الرماح , وتصلح في كثير من الأحايين ما أفسدته الحروب والغارات، يقول جرير:
ستعلم ما يغني حكيم ومنقع .... إذا الحرب لم يرجع سفيرها(1)
وقد وجب على السفير أن يكون حليماً حكيماً، منكراً داهياً، خراجاً ولاّجاً، صحيح الفطرة، بصيراً بمخارج الكلام وأجوبته، يقول عمر بن أبي ربيعة:
فبعثنا طبَّة محتالة.... ................ تمزج الجد مراراً باللعب
ترفع الصوت إذا لانت لها...... وتراخى عند سورات الغضب(2)
تلك سفيرة هوى، فما حال سفير قوم، يرعى مصالح قومه، أو يدفع شر خصمه، أو يقف بين يدي ملك جبار، تتنازعه الرغبة والرهبة، فيوطد لقومه في حيطة وحذر, إنه لا بد أن يجمع الفطانة والفصاحة، فيتخير الكلام، ويستعذب الألفاظ ، حتى يطفئ جمرة الغيظ، ويسل دفائن الحقد.
ولقد كان سفير العرب هو المقدم في عشيرته، وعميدها الذي من قوته تنزع، أو حكيمها الذي عن رأيه تصدر، أو شاعرها الذي عن لسانها يعرب ، ولبعد همة السفراء وعلو قدرهم فخرت العرب بهم، يقول المثقب العبدي:
أبي أصلح الحيين بكراً وتغلباً .... وقد أرعشت بكر وخفت حلومها
وقام بصلح بين عوف وعامر....... وخطة فصل ما يعاب زعيمها(3)
معاملة السفراء:
ليتمكن السفراء من إطفاء النائرة، وإحلال السلم، كان لا بد من حصانة يتمتعون بها، وحماية متعارف عليها بين القبائل، تمكنهم من الوفود آمنين مطمئنين ؛ لذا فقد أكرمت العرب السفراء , وأحسنت معاملتهم، ووفرت لهم الحماية والأمن، وقد قدم في يوم ذي قار النعمان بن زرعة التغلبي على بكر رسولاً من كسرى، يخيرهم خلالاً ثلاثاً: أن يسلموا حلقة النعمان، أو يرتدوا إلى الصحراء، أو يأذنوا بحرب ، وكان لهم في الأولى الدنية، وفي الثانية المنية عطشاً، فلم يكن من هانئ بن قبيصة سيد بكر إلا أن قال له: لولا أنك رسول ما أبت إلى قومك سالماً(4).
وبعث مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب إلى النبيصلى الله عليه وسلم رسولين يحملان كتاباً، يقول فيه: "من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله. سلام عليك، فإني قد أشركت في الأمر معك، وأن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشاً قوم يعتدون".
فلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب، قال للرسولين: فما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال مسيلمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أما والله لولا أن الرسل لا تُقتل لضربت أعناقكما"(5).
أغراض السفارة:
1-تعزيز القبيلة:
سعى السفراء في عزة قبائلهم ومنعتها، فساروا يوثقون المواثيق، ويشدون الأحلاف، ولا سيما عندما تشتد عليهم الخطوب، وتغلب عليهم الخصوم ، ووقف الشعراء السفراء بين يدي الملوك في الحكومات، يبينون ما يراه قومهم حقاً، ويدفعون ما يرونه جوراً من خصمهم وتعدياً، ولقد كان الحارث بن حلِّزة الشاعر سفير بكر إلى ابن هند الملك اللخمي، في خصومتها مع تغلب للدفاع عن حياة مائة رهينة من بكر، كانت في يد عمرو بن هند، فأنشد ابن هند معلقته:
آذنتنا بينها أسماء ... رب ثاو يملُّ منه الثواء(6)
رفع فيها الحارث صوت العقل، ودفع عن قومه الشر والتجني، فحكم عمرو بن هند أنه لا يلزم بكر بن وائل ما حدث لرهائن تغلب، ودفع رهائن بكر إلى الحارث.
ولم يقصر السفراء سعيهم خارج قبائلهم أو بطون عشائرهم، دعاة صلح، أو سعاة حلف، بل سعوا في قومهم الأدنيين، يقيمون ميلهم، ويزجرونهم عن الغدر والظلم، ويدعونهم إلى الوفاء بالعهد والعقد، ويسعون في رشدهم عندما تضل حلومهم، وتطيش سهامهم، ولقد عرف نابغة بني ذبيان بالحزم ورجاحة العقل وصدق النظر، مما جعل منه ناصحاً مرشداً لقبيلته، فضلاً عن كونه سفيرها وشفيعها عند الغساسنة، وقد تمكن بحسن سياسته ومهارته من انتزاع قومه من معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وجنبهم الغدر بالحلفاء والوقوع في مصائد الأعداء، وقد قتلت بنو عبس نضلة الأسدي، فقتلت بنو أسد رجلين من عبس فأراد عُيينة بن حصن سيد ذبيان أن يخرج حلفاءه من بني أسد من ذبيان، ويعاون عبساً عليهم، واندفع في هذا الأمر بحماسة وطيش شأن فتيان الحرب، فشق ذلك على النابغة، وأدرك بنفاذ بصيرته وتجربته أن هذا الأمر سيجلب الشر والضر على ذبيان، وأنه ليس من حسن السياسة أن يقطع قومه حلفهم، بعد كل البلاء الذي أبلته أسد في الدفاع عنهم فخاطب عُيينة، وقال:
ألكني يا عيُين إليك قولاً ... سأبديه إليك، إليك عني
أتخذل ناصري، وتعز عبساً ... أيربوع بن غيظ للمعن
إذا حاولت في أسد فجوراً... فإني لست منك ولست مني
ولو أني أطيعك في أمور.... عضضت أناملي وقرعت سني(7
وكان المتلمس الضبعي رسول الثورة في قومه، فقد أفنى حياته وهو يسعى في ثورة بكر على الطغيان اللخمي، ويدعو بحرقة ومرارة للتمرد على الضيم:
يا آل بكرٍ: ألا لله أُمُّكم... ............... طال الثواء وثوب العجز ملبوس
أغنيت شأني، فأغنوا اليوم شأنكم.... واستحمقوا في مرأس الحرب أو كيسوا( وفي قصيدة أخرى أرسلها الشاعر المنفي في الشام إلى قومه في العراق، يقول:
إن الهوان حمار القوم يعرفه.......... والحر ينكره والرسلة الأجد
ولن يقيم على خسف يسام به......... إلا الأذلان: عير الأهل والوتد(9)