الحمد لله.. فرض على عباده صيام شهر رمضان وأنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاعلم أخي المسلم أن الصيام هو الركن الرابع من أركان الإسلام فرضه الله على عباده تزكيةً لنفوسهم وتربية لأبدانهم، وغذاءً لقلوبهم، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُهّا الذين آمنُوا كُتِبَ عَليكُمُ الصّيامُ كَمَا كُتِبَ عَلى الّذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلكُم تَتقُونَ} [البقرة:183]، لا كما يزعمه أهل الضلال والانحلال من أن الله فرضه ليشق على عباده ويكلفهم مالا يطيقون، وإنما السر: {لِيَعلم اللّهُ من يَخَافُهُ بِالغَيبِ} [المائدة:94]، وإلا لو قال العبد: إني صائم وانزوى في مكان عن أعين الناس يأكل ويشرب ويستمتع ما شعر به أحد، لكنه لا يغيب عمن لا تخفى عليه خافية، فهذه الخشية بالغيب هي سر التكليف لَعَكُم تَتَقُونَ .
على من يجب؟.. وهو واجب على المسلم العاقل البالغ القادر المقيم. وحقيقته الإمساك عن جميع المفطرات بنية التعبد لله من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
ماهو فضله؟.. هو من أجلّ العبادات وأفضلها، قال سبحانه: {شَهّرُ رَمَضّانَ الّذي أُنزِلَ فيهِ الّقُرآنُ} [البقرة:185]، فإنزال القرآن فيه علامة على فضله.
وقال سبحانه في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به» [متفق عليه من حديث أبي هرّيرة رضي الله عنه].
قال ابن رجب في لطائف العارف: " فاستثناء الصيام لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يضاعفه الله عز وجل أضعافاً كثيرة بغير حصر ولا عدد، فإن الصيام من الصبر والله قد قال في الصبر: {إنّمَا يُوَفّى الصابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى شهر رمضان شهر الصبر [رواه أبو داود]، وفي حديث آخر قال: «الصوم نصف الصبر» [رواه الترمذي] ".
والصبر ثلاثة أنواع، صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة وتجتمع الثلاثة كلها في الصوم، فإن فيه صبراً على ما يحصل للصائم فيه من الجوع والعطش، وضعف النفس والبدن.
شرف الزمان يحصل به مضاعفة الأجور على الأعمال.. جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عمرة في رمضان تعدل حجة»، أو قال: «حجة معي »، وذكر أبو بكر بن أبي مريم عن أشياخة أنهم كانوا يقولون: " إذا حضر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة، فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة في غيره ".
قلت: والمقصود بالانبساط في النفقة أي على الفقراء والمحتاجين وتفطير الصائمين ونحو ذلك لا ما يفعله كثير من الناس اليوم من الإسراف بالمآكل والمشارب.
وقال النخعي : " صوم يوم في رمضان أفضل من ألف يوم، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة، وركة فيه أفضل من ألف ركعة ".
وقد يضاعف الثواب بأسباب أخرى منها: شرف العامل عند الله وقربة منه، وكثرة تقواه، كما ضوعف أجر هذه الأمة على أجور من قبلهم من الأمم و أعطوا الكفلين من الأجر.
أخي الحبيب.. بعد هذا الترغيب وما علمت من فضائل الصيام، دعني يا رعاك الله أنتقل بك إلى أحوال الناس في الصيام بين العادة والعباده فلعلك تكون ذاك المتعبد لا المتعود.
صيام العارفين.. فالعارف بالله المحقق للعباده هو الذي عرف أن الصيام سرًّ بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره، لأنه مركب من نية لا يطلع عليها إلا الله وترك لتناول الشهوات التي يستخفي بتناولها في العادة ولذلك قيل: " لا تكتبه الحفظة "، وقيل: " إنه ليس فيه رياء "، كذا قاله الإمام أحمد، حتى كان بعض الصالحين يود لو تمكن من عبادة لا تشعر بها الملائكة الحفظة.
وقال بعضهم لما اطلع على بعض سرائره: " إنما كانت تطيب الحياة لما كانت المعاملة بيني وبينه سراً ثم تمنى على نفسه بالموت فمات، فالمحبون يغارون من اطلاع الأغيار ( أي الغير ) على الأسرار التي بينهم وبين من يحبهم ويحبونه.."
نسيم صبا نجد متى جئت حاملاً *** تحيتهم فاطر الحديث عن الركب
ولا تذع السر المصون فإنني *** أغار على ذكر الأحبة من صحبي
وبعض المؤمنين لو ضرب على أن يفطر في شهر رمضان لغير عذر لم يفعل لعلمه بكراهة الله لفطره في هذا الشهر، وذلك من علامات الإيمان أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أن الله يكرهه فتصبر لأنه فيما يرضي مولاه وإن كان مخالفاً لهواه، ويكون ألمه فيما يكرهه مولاه وإن كان موافقاً، وإذا كان هذا فيما حرّم لعارض الصوم من الطعام والشراب ومباشرة النساء فينبغي أن يتأكد ذلك فيما حرّم على الإطلاق كالزنا وشرب الخمر وأخذ الأموال والأعراض بغير حق وسفك الدماء المحرمة، فإن هذا يسخط الله على كل حال، وفي كل زمان ومكان، فإذا كمل إيمان المؤمن كره ذلك كله أعظم من كراهته للقتل والضرب، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم من علامات وجود حلاوة إيمان: أن يكره أن يعود الى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار، وقال يوسف عليه السلام: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33]، وسئل ذو النون المصري، متى أحب ربي؟ إذا كان ما يكرهه أمرّ عندك من الصبر... قال الشاعر:
عذابي فيك عذب *** وبعدي فيك قرب
وأنت عندي كروحي *** بل أنت منها أحب
حسبي من الحب أني *** لما تحب أحب
وهذا المحب العارف لربه علم أن الصيام كسر للنفس فإن الشبع والري ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة، فإذا انكسرت النفس تخلى القلب للفكر والذكر، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان وتنكسر سورة الشهوة والغضب، ولهذا جعل النبي الصوم وجاء لقطعه شهوة النكاح.
وخصلة أخرى من خصال هذا المحب المحقق لعبادة ربه في الصيام علمه بأنه لا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة في غير حالة الصيام إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرمه الله في كل حال، من الكذب والظلم والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : «من لم يدع قول الزور والعمل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» [أخرجه البخاري]، قال أحدهم:
إذا لم يكن في السمع مني تصاون *** وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذاً من صومي الجوع والظما *** وإن قلت إني صمت يومي فما صمت
وهذا المحب أيضاً هو الذي استبشر بدخول الشهر لعلمه بما يجده من اللذه بصيامه ومن أنس في قيامه، فنهاره تسبيح وتهليل وتحميد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وصدقة وبر وإغاثة وإحسان، وليله لا يتهجع فيه إلا القليل تحسباً للهجوع الطويل {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18،17]، سرى المحب في مناجاة حبيبه ونجوم الليل تضيء مواطن سجوده، تدبر واعتبار واستغفار بالأسحار فهو على هذا الحال طوال أيام شهره ولياليه، بل إذا أدركته العشر الأواخر جدّ كما كان يجدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله مستشعراً قوله صلى الّه عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيماناً وإحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه» مستحضراً قوله : «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان» فإذا كانت صبيحة العيد تحققت له أولى الفرحتين ممزوجة بالحزن على فراق الحبيب الذي قضى في كنفه طوال أيام الشهر، فإذا دموعه تنهمر حين يصبح مفطراً حامداً لله على تمامه الصيام حزيناً على فراق رمضان ولسان حاله يقول:
إذا الخل أرسى بالمقام رحاله *** تمنيت أن تبقى دواماً مدانيا
نقيم على الإحسان والعيش طيب *** كأنا بجنة عدن بين تلك الرواتيا
وفي لحظة عزم الرحيل وقال لي *** شددت رحالي صوب أهلي وداريا
وفي قابل ألقاكم بعدغيبة *** فأشعرته قد لا أكون ملاقيا
فمن كانت هذه حاله فهنيئاً له وليبشر فإن هذا من علامة قبول العامل وعمله، والله رؤوف رحيم لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً.
صيام المتعودين:
وأما الآخر ذلك الصائم بالعادة لا بالعبادة فحدث عن حاله ولا حرج، وهم في هذا الزمان كثير إلا من رحم الله، جعلني الله وإياكم ممن رحم. قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، فمن هؤلاء من يصوم على الموائد لا على ما يقتضيه الإيمان ويوجبه، فلجهله وقلة فقهه قد لا يفطر لعذر، ولو تضرر بالصوم مع أن الله يحب منه أن يقبل رخصته، ولكن جرياً منه على العاده لا ينظر وهو مع ذلك قد اعتاد ما حرم الله من الزنا وشرب الخمر وأخذ الأموال والأعراض أو الدماء بغير حق، فهذا يجري على عوائد في ذلك كله لا على مقتضى الإيمان.
ومن هؤلاء من إذا صام عن شهواته المحرمة التي اعتاد فعلها في غير رمضان كان صيامه عنها وقتياً فتراه يتحين غروب الشمس متى تغيب ليهرع إلى ما استمراً عليه من شهواته المحرمة، بل ربما بادر بالفطر على شيء من هذه المحرمات كما يفعل بعض المدخنين هداهم الله.
وربما لو صام بعضهم عما أباحه الله من الأكل والشرب والجماع، لكنه في الحقيقة لم يصم عن بقية المحظورات كاللغو والسباب والغيبة والنميمة والغشّ في التعامل والربا والزور والبهتان وسائر العصيان مما حرمه الله على الإطلاق فكيف بحرمته على الصائم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر» فالصيام قربة ولكن هذا التقرب إلى الله بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب بترك المباحات كان بمثابة من ترك الفرائض ويتقرب بالنوافل، وفي مسند الإمام أحمد أن امرأتين صامتا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكادتا أن تموتا من العطش، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض، ثم ذكرتا له فدعاهما أن تتقيئا، فقاءتا ملء قدح قيحاً ودماً وصديداً ولحماً عبيطاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن هاتين صامتا عما أحل لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلستا إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس» [حديث ضعيف].
ومن هؤلاء أصحاب الصوم بالعادة من تراه يتكلف السؤال عن أمور سكت عنها الشارع رحمة بالأمة وفي جعبته من الكبائر ما يحتاج إلى إصلاحها والتوبة منها، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» [رواه البخاري ومسلم].
ومن أهل الصيام بالعادة من لم يستشعر لذة الصيام وحلاوة القيام، فإذا أفطر من يومه كأنه انحط عنه ثقل عظيم، فإذا حل الفجر لصيام اليوم التالي عاد إليه ذلك الثقل وزاد عليه الهمّ يحسب لأيام الشهر متى يفرح بآخر أيام الشهر وكأن شهره دهر، وهو كذلك مع القيام في لياليه يحفظ عبارة ( ما هي إلا سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها ) وفي المحرمات لم يحفظ ( يعاقب فاعلها ويثاب تاركها ) والصيام عند هؤلاء أيضاً يقطع عنهم لذة التمتع في نهارهم بأكل الحرام وشرب الحرام وارتكاب الحرام مع أنهم في لياليهم لا يتورعون عن ذلك كله، فليلهم يهدم نهارهم، وسيئاتهم تذهب حسناتهم، يقول قائلهم:
إذا العشرون من شعبان ولّت *** تتابع شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغارٍ *** فإن الوقت ضاق على الصغار
فإذا انقضى انتابته سعادة جوفاء باهتة بانقضاء الشهر لا بالفرح بالصيام والقيام، وذلك لأنه لم يصم على سبيل التعبد ولكن على سبيل التعود، فلم يحدث الصيام عنده توبة أو إنابة ولا مزيد طاعة أو عبادة وإنما لسان حاله يقول:
رمضان ولّى هاتها يا ساقي *** مشتاقة تسعى إلى مشتاق
فما أن ينقضي الشهر إلا ويعود على ما كان عليه من الغفلة والإعراض، وهكذا دواليك زماناً بعد زمان حتى يبادره هادم اللذات كأن لم يثبت فيها إلا ساعة من نهار، ولو فحصت القوم لوجدت أهل العادة أكثر وأهل العبادة قليل، وصدق الله إذ يقول: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص:24].
فهل لك أخي - يا من ترجو رحمة الله - أن تسعى لتكون من القليل، جعلني الله وإياك منهم ووالدينا وإخواننا المسلمين.
وختاماً: {هَذَا بَلاغٌ لِلنّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيعلَمُوا أنَما هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيذّكّرَ أولُوا الألبابِ} [إبراهيم:52].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
:المستحي من نفس للفائدة :المستحي من نفس