في منزلة بردة الإمام البصيري لدى أهل المغرب
لا يختلف اثنان أن فن
المدائح النبوية في الأدب العربي، الذي تشكلت إرهاصاته الأولى مع شعراء العصر
الإسلامي وتبلورت مع مُدَّاح آل البيت من شعراء الشيعة على العهدين الأموي
والعباسي، قد عرف لحظته المتوهجة، وتألقه الباذخ، ومجده الشامخ، مع شروق نجم
الإمام الشهير سيدي شرف الدين البوصيري (608ه/1211م - 696ه/1296م) بنظمه لميميته
"الكواكب الدرية في مدح خير البرية"، والتي اشتهر نعتها على الألسنة
والسطور باسم "البردة".
إن هذا النص المديحي
البهي، والمُبْدَع الشعري الزهي، قد تخلق من رحم موهبة شاعر صوفيِّ المدد؛ مصري
المثوى والمولد؛ صنهاجي الأصل والمحتد؛ مغربي المحبة والميول، كما قال في مدح
الشيخ الناصح أبي محمد صالح (ت.631ه/1233م) دفين آسفي:
وَمَا أَنا مِنْ دُكَّالَةٍ غَيْرَ أَنَّنِي ** نُسِبْتُ
إِلَيْهِمْ نِسْبَةَ الصِّدْقِ فِي الحُبِّ
كَنِسْبَةِ سَلْمَانٍ لِبَيْتِ نَبِيِّهِ ** وَمَا كَانَ مِنْهُمْ
مِنْ قَبِيلٍ وَلاَ شَعْبِ (1)
ولعل ما يزكي نسبة المحبة
هاته، المشربُ الروحي الشاذلي الذي يمتح من غديره الإمام البوصيري، فقد سُقي
بأكواس المعاني من سلسلة ذهبية تزدان بأقطابٍ غامرةٍ أسرارُهمُ الربانية، وباهرةٍ
مذاقاتُهم العرفانية؛ شيخِه العارف الكبير أبي العباس المرسي (ت.686ه/1287م)؛
وارثِ سر الواصل الشهير أبي الحسن الشاذلي (ت.656ه/1258م)، تلميذِ الشيخ الكامل
زينة أهل المغرب وقطب رحى مسلكهم الصوفي، دفين جبل العلم أبي محمد عبد السلام بن
مشيش(ت.625ه/1227م).
إن لهذه الأمارات
التاريخية والصوفية دلالاتٍ خاصة، لا سيما وأن نص البردة قد حاز قيمة روحية متميزة
باعتباره نصا فريد الشأو والشأن، يطرز، بألق لا يضاهى، مدح النبي الكريم متغنيا
بشمائله الخِلقية الرائقة، وكمالاته الحسية الفائقة، ومجليا فضائله الخُلقية
الساطعة، ومكارمه السلوكية اللامعة. ثم باعتبار سياق نظمه الوشيج الصلة بكرامات
الصوفية، حيث شكلت البردة مرهما معنويا وبلسما روحيا، أنهض ناظمها الإمامَ
البوصيري من قعدته في مرضه، وألحق نصفه الذي أبطله الفالجُ بنصفه المعافى، وذلك
حين تعهده بالقبول والرضى، في الرؤيا الشهيرة، الحبيبُ المصطفى، ولفَّه بالبردة
النبوية الشريفة فكانت له نعم الدواء والشفا، بعد أن تمايل لمعاني ميميته وطرب
لقوافيها. كل ذلك وغيره، مما تزدهي به "الكواكب الدرية" وتزهو من معان
روحية سنية وقيم إسلامية سمية؛ وأخلاق جمالية بديعة وتوقيعات بلاغية رفيعة، جعل نص
البردة يتبوأ منزلة استثنائية ومتفردة في أفئدة المغاربة وحياتهم الدينية. هكذا
توَّجُوا صاحبها في أدبياتهم وأعرافهم بلقب دال فنعتوه ب"إمام
المادحين"، ورفعوا من قدرها وأعلوا من شأنها، فاعتنوا بها شرحا وبسطا
وتعليما، ثم معارضة وتخميسا وتشطيرا وتسميطا؛ ثم تلحينا وترنيما وإنشادا؛ معتمدين
في ذلك على نص البردة كما تداولته النسخُ المغربية، والتي تضيف ثلاثة عشر بيتا
تغيب من متنها في الرواية المشرقية، منها تسعة أبيات متوالية تبدأ من قول
البوصيري:
لما شكت وقعه البطحاء قال له ** على الربا والهضاب انهل وانسجم
إلى قوله:
لولا العناية كان الأمر فيه على ** حد السواء فذو نطق كذي بكم
وثلاثة غيرها من قوله:
تعيى العقول كلالا عند رؤيته ** كانما نظرت للشمس من أمم
إلى قوله:
أبان مولده عن طيب عنصره ** يا طيب مبتدإ منه ومختتم
ثم بيت منفرد هو:
إن قام في جامع الهيجا خطيبهم ** تصاممت عنه أذنا صمة الصمم
وقد تضاربت الآراء حول
نسبة هذه الأبيات إلى الإمام البوصيري، لكن الثابت -مثلما يؤكد ذلك البحاثة المحقق
والفقيه المدقق الأستاذ المرحوم محمد المنوني- هو «وجود نص متميز لقصيدة البردة في
نسخها المغربية وبعض رواياتها، وهي أولى ميزات اشتغال المغاربة على "الكواكب
الدرية في مدح خير البرية"» (2)
أما شروحها، فعلى غرار ما
ذكره زكي مبارك في كتابه "المدائح النبوية في الأدب العربي" من عناوين
لشروح مشرقية(3)، فإن المغاربة قد أسهموا أيضا بحظ ظاهر، وضربوا بقسط وافر، في هذا
الباب، من ذلك على سبيل النموذج والتمثيل لا الاستقصاء والتفصيل، نذكر شرح محمد بن
أحمد بن مرزوق (ت.781ه/1379م) المعنون ب"إظهار صدق المودة في شرح
البردة"، ثم شرح أحمد بن عبد الوهاب الوزير الغساني (ت.1146ه/1733م) المعنون
ب"الجواهر السنية في شرح الكواكب الدرية"، و"نسيم الوردة في شرح
البردة" لشيخ الجماعة أبي حامد المكي البيطاوري الرباطي (ت.1355ه/1936م).
أما المعارضة، فنشير،
تمثيلا، إلى ميمية عبد الله المهدي بن محمد الغزال (ت.1140ه/1728م). وفي العصر
الحديث، وائتساء بشعراء المشرق الذين عارضوها مثل محمود محمود سامي البارودي
(ت.1322ه/1904م) في "كشف الغمة في مدح الأمة"؛ وتلميذه أمير الشعراء
أحمد شوقي (ت.1343ه/1932م) في "نهج البردة"؛ عارضها أيضا الشاعر المغربي
الفحل الذي رحل عنا حديثا محمد الحلوي (ت.1427ه/2005م) بقصيدة مطلعها:
أحبب بها من ربى عطرية النسم ** تفوح بالطهر والإلهام والقيم
فيما خمسها العديدون، نشير
منهم إلى محمد بن محمد بن عبد الرحيم بن يجبش التازي (ت.920ه/1514م). وممن شطرها
محمد بن القاسم بن داود السلوي (كان حيا سنة 812ه/1410م)، أما تسميطها فنمثل له
بقصيدة لمحمد بن يحيى بن محمد بن يحيى بن جابر الغساني (ت.827ه/1424م).
هذا قليل من جم وقطرة من
يم، غير أن فيه بعض الغُنية والكفاية للإلماع إلى ما حظيت به البردة البوصيرية،
دون غيرها من نصوص المديح كبردة كعب بن زهير أو القصيدة الشقراطيسية(4)، من كريم
العناية، وعظيم الرعاية من لدن العلماء والأدباء في المغرب الأقصى. وليس ذلك بغريب
في حق نص توافرت له من المقومات التاريخية والروحية والجمالية ما أسلفنا، ولا
مستعجب في حق المغاربة المتشبثين دوما بإسلامهم، والمشتهرين أبدا بحبهم الفارضيِّ
للرسول صلى الله عليه و سلم، وتفانيهم في جنابه النبوي الشريف، وكذا في جناب عترته
الطاهرة وآل بيته الكرام.
وإلى جانب تينك العناية
والرعاية اللتين حظيت بهما البردة لدى المغاربة على المستوى العلمي والأدبي، فقد
أولاها صوفية المغرب الأفاضل اهتماما فنيا وموسيقيا تفرد به حضور البردة في
محافلهم وحلقاتهم، حيث نغموها بشجي الترانيم والأنغام، وحلوها ببهي الأدوار
والألحان، وأنشدوها بأطرب الإيقاعات والأوزان، وتصادحوا بها بأشجى الحناجر وأجمل
الأصوات الحسان، وذلك تحبيبا لها لدى الخاص والعام، ونشرا لما فيها من قيم إسلامية
نبيلة، ومُثل نبوية جليلة، وإشاعة لما تنضح به من مكارم محمدية فاضلة، ومناقب
نورانية حافلة. والمنصتُ إلى البردة في لبوسها النغمي المغربي سيكتشف أن القوم
رنموها بتلاحين تخلب الألباب وتأخذ بمجامع القلوب، تلاحين تسري في السامع اللبيب
فتحرك لواعجه وخوالجه، وتستثير فيه كوامن العشق ومواجيد الحب نحو المصطفى، ونحو
سيرته العطرة وسنته الغراء. كما سيكتشف هذا المنصت أيضا أنها تلاحين نسجت على نسق
طبوع (مقامات) الموسيقى الأندلسية المغربية، ووفق الأساليب الروحانية في الترنيم
والتوقيع والأداء والتغني في سماع الزوايا الشاذلية بالمغرب.
وتفصيلا، فقد قسم
المغاربة نص البردة إلى جملة أقسام شعرية تعرف ب"المواقف"
أو"المراكز"، وخصصوا كل قسم منها بطبع واحد أو بطبوع متجانسة، ونوعوا
فيه من الأدوار والترانيم بحيث تلائم هذه الأخيرة معاني ودلالات كل قسم من أقسام
البردة وكل باب من أبوابها. أضف إلى ذلك أنهم نسجوا البردة وفق أسلوب تلحيني ملحمي
أجملوا فيه كل الطبوع الأندلسية المغربية، سواء منها المتداولُ فيما يعرف في المغرب
بفن "طرب الآلة" - أي التراث الموسيقي المغربي الآلي المنحدرة أصولُه من
الأندلس- (مثل طبوع رمل الماية والحجاز الكبير والاصبهان...)، أو تلك الطبوع التي
ضاعت أو فُقدت نوباتها في هذا الطرب، واحتفظ أرباب الزوايا بمستعملات منها في
مديحهم وحلقات ذكرهم (مثل طبوع حمدان، وعراق العرب، والمزموم...).
ومن غزير المزايا أيضا
التي تسم وتزين أداء البردة على الطريقة التلحينية المغربية في زواياه الشاذلية،
أن الانتقال فيها من طبع إلى آخر يتم في سلاسة ودفء ورونق بحيث تَعْبُر البردةُ
بالسامع من نغم إلى آخر بحلاوة بادية الجمال والبها، متناهية الألق تتلف النُّهى،
لا يحس معها السامع بنشاز أو تنافر بين الطبع المنتقَل منه والطبع المجاوِر
المنتقَل إليه. ثم إن البردة وهي تُحَلَّى بهاته الطبوع، تُغنى في إيقاعات متنوعة
سواء منها الإيقاعات المغربية الأندلسية (قدام، درج، بطايحي، قائم ونصف، بسيط)، أو
بعض الإيقاعات التي انتعشت خاصة بين أرباب الزوايا (مثل إيقاع أقصاق التركي
المستعمل في مفتتَح البردة).
إن هذه الخصائص الفنية،
التي أوجزنا الحديث فيها دون كبير توسع، تشهد على عبقرية واضع تلحين البردة،
وتجلِّي ثقافته الموسيقية الواسعة والعميقة، وقدرته الإبداعية الفائقة على صياغة
تلحين طويل النفس والمساحة، يستغرق متنا مديدا تصل أبياته إلى ثلاثة وسبعين ومائة
بيت متنوعة الطبوع والإيقاعات والتلاحين، بحيث يشعر المترنم والمنصت معا أنهما
إزاء عمل أصيل وعميق يستمد مغزاه ومعناه من الغايات الروحية التي يهدف إليها،
والتي مناطها الأساس زرع محبة الرسول في الأفئدة والقلوب من خلال الكلمة الجميلة
واللحن الشجي والأداء اللائق والرائق.
لهذه الاعتبارات الفنية
والروحية راح المغاربة يتغنون بالبردة خلال اجتماعاتهم الدينية في المساجد
والزوايا ومشاهد الصلحاء والأولياء، وأوقفوا على ذلك أوقافا وأحباسا عديدة بمختلف
جهات المغرب حتى يضمنوا لهذا التغني الصوفي الاستمرار والخلود، إذ من خلاله
يستديمون استحضار معاني البردة ومبانيها وترانيمها وإيقاعاتها في مسراتهم وفي
أحزانهم، يعبِّرون بها في الفرح عن أحاسيس الغبطة والسرور ومشاعر الفرح والحبور،
ويتوسمون فيها خلال الأحزان والأزمات المواساة والعزاء، بل وبها يستصرخون الرسول
ويستغيثون بالحق سبحانه لتفريج الغمة ودفع البلاء، وذلك لما أسند إليها من خواص
وبركات في كشف الملمات ورفع الغمرات. وما نعتها، من بين أسمائها العديدة، باسم
"الشدائد"، إلا إشارة لما لها في هذا الباب من نفحات.
هكذا ساد حضور البردة في
مختلف الأوساط العالمة والشعبية، وانتشر التغني بها على الطريقة الموصوفة في جميع
مناطق المغرب وجهاته. وقد احتضنت ذلك مراكز كبرى كانت بمثابة مدارس ضمنت امتداد
هذا الموروث الروحي الباذخ وانتقاله بالرواية والمشافهة جيلا بعد جيل.
ومن أبرز المراكز
المغربية التي مازالت تُحافظ على إنشاد البردة بهاته الطريقة المغربية الأصيلة،
الشهيرة ب"الطريقة الفاسية" أو "العمل الفاسي"(5)، نشير إلى
الحفلِ الروحي الأسبوعي الذي يعقد صبيحة كل جمعة في ضريح مولاي إدريس الأزهر بفاس،
وضريح سيدي العربي بن السايح بالرباط، ومشهد سيدي أبي العباس السبتي بمراكش، حيث
تختم البردة في هاته المراكز كاملة مع تخليلها بشقيقتها "الهمزية"
وبإنشادات الطبوع (التي حافظت عليها الزوايا المغربية وأغنتها) وبالمستعملات
والمرددات، والتي يطعم بها المنشدون قصيدة البردة بما يتلاءم وأقسامَها إن من حيث
النغم أو الإيقاع أو المعنى. كما أن المغاربة ومن فرط احتفائهم الشعبي ببردة
البوصيري، ما فتئوا يستدعون المنشدين للتغني بهاته البردة في البيوتات الخاصة
عنايةً بصاحبها واستمدادا من نفحاتها واستمطارا من أنوار الممدوح فيها.
ولعل الاحتفاء بالبردة في
المغرب قد اتخذ سبيلا ما برح يترسخ ويتبلور، إن في الأوساط الشعبية أو الأوساط
الرسمية، منذ العهد الموحدي مع عمر المرتضى ثم في عهود العزفيين ومع المرينيين
والسعديين إلى العهد العلوي الزاهر، حيث مازالت تنشد قبسات من نصها في المحافل
الدينية الرسمية بحضور أمير المؤمنين الملك محمد السادس، كما هو الشأن مثلا في
ذكرى المولد النبوي الشريف الذي يحتل في المغرب مكانة رمزية وروحية راسخة وخاصة.
د. محمد التهامي الحراق
الهوامش:
(1) مفاخر البربر، مؤلف
مجهول، دراسة وتحقيق عبد القادر بوباية، دار أبي رقراق، الرباط 2005م: ص.178-179.
(2) ميزات مغربية لقصيدة
البردة، محمد المنوني، مجلة "دعوة الحق"، ع.261/1407ه-1986م: ص.21.2
(3) المدائح النبوية في
الأدب العربي، زكي مبارك، منشورات المكتبة العصرية، بيروت 1935: ص.198-200.3
(4) نسبة إلى الشيخ أبي
محمد عبد الله بن يحيى الشقراطيسي التوزري (ت.466ه/1073م)، ومطلعها: الحمد لله منا
باعث الرسل ** هدى بأحمد منا أحمد السبل
(5) تم توثيق هذا العمل
في بعض المدونات مثل "فتح الأنوار في بيان ما يعين على مدح النبي
المختار" لمحمد بن العربي الدلائي الرباطي (ت.1285ه)؛ و"مقيدة قراءة
البردة" لمحمد المهدي بن الطالب ابن سودة (ت.1294ه)؛ واستنزال الرحمات
والنفحات بإنشاد بردة المديح بالنغمات" لمحمد العابد بن الطالب ابن سودة
(ت.1359ه)؛ و"قصيدة البردة" تنسيق عبد اللطيف بنمنصور (كتيب مرفق لتسجيل
"العمل الفاسي" على الأقراص المدمجة تحت إشراف وزارة الثقافة، صدر سنة
1994م). المصدر: http://www.habous.gov.ma