لو لم تكن الصورة تحمل أسفلها خبراً عاجلاً، يعلن وقوعه في قبضة “قوات التحرير”، ما كنا لنصدِّق المشهد.
أيكــون هــو؟ القائد الزعيم الحاكم الأوحد، المتعنتر الْمُتجبِّـر، صاحب التماثيل التي لا تُحصى، والصور التي لا تُعدّ، وصاحب تلك القصيدة ذات المطلع الذي غدا شهيراً، يوم ظهر على الشاشة عند بدء الحرب الأميركية على العراق، مطالباً بوش بمنازلته.
أيكون صاحب “أطلق لها السيف لا خوف ولا وجل”، قد “أطلق لها اللحية”، بعد أن خانه السيف وخذله الرفاق، ولم يشهد له زُحل سوى بالحمق والجريمة؟
أكان هو؟ ذلك العجوز مُتعــب الملامح، المذعور كذئب جريح، فاجأه الضوء في قبو، هو بشعره المنكوش ولحيته المسترسلة، هو ما عداه، يفتح فكّيه مستسلماً كخروف ليفحص جندي أميركي فمه. فمه الذي ما كان يفتحه طوال ثلاثين سنة، إلاّ ليعطي أمراً بإرسال الأبرياء إلى الموت، فبين فكّيه انتهت حيوات ثلاثة ملايين عراقي.
أكانت حقاً تلك صورته؟ هو الذي ظلّ أكثر من ثلاثة عقود، يوزع على العالم سيلاً من صوره الشهيرة تلك، في أزيائه الاستعراضية الكثيرة، وسيماً كما ينبغي لطاغية أن يكون، أنيقاً دائماً في بدلاته متقاطعة الأزرار، ممسكاً ببندقية أو بسيجار، مبتهجاً كما لو أنه ذاهب صوب عرس ما. فقد كان السيد القائد يُزفّ كل يوم لملايين العراقيين، الذين اختاروه في أحد تلك الاستفتاءات العربية الخرافية، استفتاءات “المئة في المئة” التي لا يتغيّب عنها المرضى ولا الموتى ولا المساجين ولا المجانين ولا الفارُّون، ولا حتى المكوّمون رفاتاً في المقابر الجماعيّة. وكان الرجل مقتنعاً قناعة شاوشيسكو، يوم اقتيد ليُنفّذ فيه حكم الشعب، هو وزوجته، رمياً بالرصاص، إنه “معبود الجماهير”، هو الذي بدأ حياته مُصلِّح أحذية قبل أن يصبح حاكماً، وتبدو عليه أعراض الكتابة والتنظير.
وبالمناسبة، آخر كتاب كتبه السيد القائد، كان رواية لم يتمكّن من نشرها، وهي تتمة لـ”زبيبة والملك”. وكان عنوانها “اخرج منها أيها الملعون”. ولا يبدو أنها أفادته في تدبُّـر أمره والخروج من الكارثة التي وضع نفسه فيها، مُورِّطاً معه الأُمّـة العربية جمعاء. فرصته الوحيدة، كانت في النصيحة التي قدّمها إليه الشيخ زايد، بحكمته الرشيدة، حين أشار عليه بالاستقالة تفادياً لمزيد من الضحايا والأضرار، التي ستحلّ بالعراق والأُمة العربية. وأذكر أن وزير خارجيته أجاب آنذاك في تصريح خالٍ من روح الدعابة “الرئيس صدام حسين لا يستطيع اتخاذ قرار بالتخلي عن ملايين العراقيين الذين انتخبوه بقناعة ونزاهة”. في هذه الأُمّـة التي لا ينقصها حُكّام بل حُكماء، كانت الكارثة متوقعة، حتى لكأنها مقصودة. وبعد أن كان العميل المثالي، أصبح صدّام العدو المثالي لأميركا، وعلى مرأى من أُمّة، ما كانت من السذاجة لتحلم بالانتصار على أميركا، ولكن كانت من الكرامة بحيث لن تقبل إلاّ بهزيمة منتصبة القامة تحفظ ماء وجهها.
“حملة النظافة” ستستمر طويلاً، في هذه الحرب، التي تقول أميركا إنّ أهدافها أخلاقية. ومهما يكن، لا نملك إلاّ أن نستورد مساحيق الغسيل ومواد التنظيف من السادة نظيفي الأكفّ في البيت ناصع البياض في واشنطن.
من بعض فجائع هذه الأُمة، فقدان حكامها الحياء. إنه مشهد الإذلال الأبشع من الموت. ومن مذلّة الحمار... صنع الحصان مجده.