إذا كان ما حدث في أميركا في "صباح الطائرات"، قد تطلّب منّا وقتاً لتصديق غرائبيّته وهَوْلِـه، فإنّ الكتابة عنه، بقدر من الموضوعية والإنسانية، كانت تتطلّب منّـا أيضاً بعض الوقت، كي نتجاوز أحاسيسنا الأُولى، ونعي أنّ تلك الأبراج الشاهقة، التي كانت "مركز الجشع العالمي"، التي انبهر الملايين من بؤساء العالم وجياعه ومظلوميه، وهم يشاهدون انهيارها، لم تكن مجرّد مبانٍ تُناطح السحَاب غروراً، بل كانت تأوي آلاف البشر الأبرياء، الذين لن يعرفوا يوماً لماذا ماتــوا، والذين كانوا لحظة انهيارها يُدفنون تحت أنقاضها، ويموت العشرات منهم، محترقين بجنون الإرهاب، دون أن يتمكَّن أهلهم من التعرّف حتى إلى أشلائهم المتفحّمة، ليكون لهم عزاء دفنهم أو زيارة قبورهم في ما بعد.
لــم تكن المباني إذن مِن ديكورات الكارتون، كما يتمُّ تجسيمها عادة في استديوهات هوليوود، عندما يتعلَّق الأمر بخدع في فيلم أميركي يصوّر نهاية العالم: فكيف انهارت بتلك السرعة الْمُذهلة، وجعلتنا نكتشف، مذعورين، هشاشة الْمَفاخر التكنولوجية، والحضارة العصرية، القائمة على الْمُزايدات التقنية، والتشاوف بين الأُمم؟
ذلك أن الكثيرين، من الذين ماتــوا تلك الميتة الشنيعة، قضوا أعمارهم في أكبر الجامعات وأغلاها، كي يتمكّنوا يوماً من تسلُّق سلّم الأحلام، والوصول إلى أعلى ناطحة سحاب في العالم، حيث ينبض "جيب" الكرة الأرضية وماداموا لم يسمعوا بابن المعتز، وإنما ببيل غيتس، نبيِّ المعلوماتية ورسولها إلى البشرية، فقد فوّتوا عليهم نصيحة شاعر عربي قال: "دعي عنكِ المطامع والأماني --- فكم أمنيةٍ جلبت منيّة"
ساعة و44 دقيقة فقط، هو الوقت الذي مرَّ بين الهجوم على البرج الأول وانهيار البرجين وإذ عرفنا أن الوقت الذي مـرَّ بين ارتطام عابرة المحيطات الشهيرة "تايتانيك" بجبل جليدي وغرقها، كان حسب أرقام الكوارث ساعتين وأربعين دقيقة، بينما تطلَّب إنجازها عدَّة أعوام من التخطيط والتصميم، وكلَّفت أرقاماً خُرافية في تاريخ بناء البواخر، وكذلك سقوط طائرة "الكونكورد" الأفخم والأغلى والأسرع لنقل الركّاب في العالم، واحتراقها (بركابها الأثرياء والمستعجلين حتماً)، في مــدّة لا تتجاوز الخمس عشرة دقيقة، وإيقاف مشروع تصنيعها لحين، بخسارة تتجاوز آنذاك مليارات الفرنكات، أدركن هشاشة كلّ ما يزهو به الإنسان، ويعتبره من علامات الوجاهة والفخامة والثراء، ودليلاً على التقنيات البشرية المتقدمة، التي يتحدّى بها البحر حيناً، لأنه يركب أضخم وأغلى باخرة، ويتحدّى بها السماء حينا آخر، لأنه يجلس فوق أعلى وأغلى ناطحة سحاب، جاهلاً أن الإنسان ما صنع شيئاً إلاّ وذهب ضحيته، ولــذا عليه أن يتواضع، حتى وهو متربّع على إنجازاته وقد كان دعاء أمين الريحاني "أيّها الربُّ إذا جعلتني أقوى، فاجعلني أكثر تواضُعاً".
أميركا التي خرجت إلينا بوجه لم نعرفه لها، مرعوبة، مفجوعة، يتنقّل أبناؤها مذهولين، وقد أطبقت السماء عليهم، وغطَّى الغُبار ملامحهم وهيأتهم، لكأنَّـهـم كائنات قادمة إلينا من المرِّيخ، لفرط حرصهم على الوصول إليه قبلنا، أكانت تحتاج إلى مُصَابٍ كهذا، وفاجعة على هذا القدر من الانفضاح، لتتساوى قليلاً بنا، نحنُ جيرانها، في الكرة الأرضية، الذين نتقاسم كوارث هذا الكواكب كلَّ يوم؟
ذلك أنه منذ زمن، والأميركيون جالسون على علوّ مئة وعشرة طوابق من مآسينا فكيف لصوتنا أن يطالهم؟ وكيف لهم أن يختبروا دمعنا؟
لــم يكن إذن ما رأيناه في الحادي عشر من أيلول، مشهداً من فيلم عوَّدتنا عليه هوليوود كان فيلماً حقيقياً عن "عولمة الرعب"، بدمار حقيقي وضحايا حقيقيين، بعضهم كان يعتقد آنذاك أنه يتفرّج على "الفيلم"، عندما وجد البرجين ينهاران فوق رأسه وكما في السينما، كان السيناريو جاهزاً بأعداء جاهزين المفاجأة أننا ما كنّـا نتوقع أن يتمّ اختيارهم بقرعة الجغرافيا من بين الْمُشاهديـــن.
لا جـــدوى مِن الإسراع إلى إطفاء جهاز التلفزيون ذلك أنَّ "النسر النبيل"، هو الذي يختار في هذا الفيلم الأميركي الطويل، لِمَن مِن المشاهدين سيُلقّن درساً ومتى، فهو الذي يقرّر إلى مَنْ منّـا سيسند دور الشرِّير.