قال الله تعالى : (( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، وادعوه خوفا وطمعا ، إن رحمة الله قريب من المحسنين ))
يأمر الله عز وجل عباده في هذه الآية بأن يتقربوا إليه بالدعاء بدافعين
هما : الخوف من عذابه وبلائه ، والطمع في عافيته ونعمائه ، وقد يتكرر هذا
الأمر كثيرا في كتاب الله تعالى . فهو يقول في آية أخرى (( ادعوا ربكم
تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين )) ويقول في صفة طائفة من عباده الصالحين
(( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين
)) ولذلك تم إجماع العلماء على أن التقرب إلى الله بالدعاء هو لب العبودية
له ، وهو أهم ما ينبغي أن يصطبغ به المسلم من مظاهر الذل لله تعالى .
وليست الحكمة من ذلك ما قد يتصوره البعض من أنه السبيل الذي ينبغي أن
يسلكه الإنسان لنيل رغائبه والابتعاد عن مخاوفه ، أي فالدعاء في تصوره ليس
أكثر من وسيلة لذلك . بل الدعاء عبادة مقصودة لذاتها يعلن بها الإنسان عن
عبوديته وذله لله سبحانه وتعالى . إذ هو يعلم أن لا ملاذ له غير خالقه
سبحانه وتعالى على أي تقدير وحال ، فلا ملجأ منه إلا إليه ولا مفر من
بلائه إلا إلى الأمل برحمته ، ولا إله غيره يشكوه إليه أو يستعد به عليه
أو يوسطه له ، إنما هو إله واحد ، بيده إسعاده وشقاؤه .
وإذن .. فهل يملك الإنسان إلا أن يتسربل بأصدق معاني الذل والضراعة لخالقه جل جلاله مهما كانت الحال التي هو فيها ؟
وهذا هو معنى العبودية لله عز وجل ، وذلك هو قصارى ما خلق الإنسان من إجله
: أن يعلن لسان حاله وجميع تصرفاته أنه مملوكٌ ذليلٌ لخالق عظيم .
ومن أروع مظاهر الحكم الإلهية ، أنه سبحانه وتعالى يربي عباده على
الاصطباغ بهذه الحقيقة بدافعين اثنين : أحدهما الأمل في رحمته ونعمائه ،
وثانيهما الخوف من عذابه وبلائه ، وإنك لتجد دلائل كل من هاتين الصفتين في
ذاته تعالى متكافئة متعادلة ، لا تغلب بوارق أحدهم على الأخرى ، حتى لا
يتغلب جانب الأمل برحمة الله تعالى على العبد ، فيترك نفسه لهذا الأمل
ويتمنى على الله ما ليس له ، وحتى لا يتغلب جانب الخوف من بطشه وبلائه
فيمتلكه اليأس ويرهب رهبة يلقي فيها بيديه .
وإنما يصلح العبد في طريق الاستقامة على العبودية لله عز وجل أن يتجاذبه
طرفا الخوف والرجاء ، كجناحي الطائر ، في تكافؤ واعتدال . فمن أجل ذلك لا
تجد في القرآن آية رحمة إلا وفي جانبها آية عذاب ، ولا تجد الباري سبحانه
وتعالى يصف ذاته بصفة من صفات العذاب والرحمة إلا ويصف ذاته إلى جانبها
بما يقابلها من الصفة الأخرى .
انظر
إلى قول الله تعالى (( نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو
العذاب الأليم )) وإلى قوله عز وجل (( قل يا عبادي الذين أسرفوا على
أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور
الرحيم ، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا
تنصرون )) وكل ما في القرآن الكريم من صفات الرحمة والعذاب لا يأتي إلا
على هذا النمط من الموازنة التربوية المثلى .
بل إن القرآن لا يصف الذين استحقوا جنة الله وفوزه في دار العقبى إلا
بأعلى صفاتهم ومراتبهم التي كانوا عليها كقوله تعالى (( كانوا قليلا من
الليل ما يهجعون ، وبالأسحار هم يستغفرون ، وفي أموالهم حق معلوم للسائل
والمحروم )) فإذا تأملت في صفاتهم هذه قلت : أنى لي أن أكون في مراتب
هؤلاء ؟
وعندما يصف الذين استحقوا عقابه لا يصفهم إلا بأسوء أعمالهم كقوله تعالى
(( ... لم نكن من المصلين ، ولم نك نطعم المسكين ، وكنا نخوض مع الخائضين
، وكنا نكذب بيوم الدين )) فإذا تأملت في صفاتهم هذه قلت : لا ريب أني
أحسن حالا منهم . وتنظر في حالك ، وإذا أنت في منزلةٍ بين حال أولئك
وهؤلاء ، فيطوف بك الأمل وينتابك الخوف ، ويتولد من تلك الحال حقيقة
العبودية لله عز وجل ، ويدعوك ذلك إلى أن تبسط كفيك إليه بالضراعة والدعاء
.