:المستحي من نفس
كتب كامل جابر من جريدة الاخبار، يقترن اسم بلدة الصرفند الساحلية الجنوبية، منذ أيام الفينيقيين حتى العهد الحديث بصناعة الزجاج اليدوي المنفوخ، وتزداد عزيمة ورثة هذه الصنعة، على التمسك بها ومحاولة الإبقاء عليها، غير أنّ ما تعانيه من كلفة باهظة في مقابل غياب التسويق والتصريف والدعم الحكومي والأهلي، ينذر بانقراضها!
أكثر ما يقلق أصحاب مصنع صرفند وهو الوحيد الباقي لصناعة الزجاج اليدوي في لبنان، هو تكدس آلاف الأباريق والكؤوس والأكواب والزهريات ومناضد الشموع والقناني الزجاجية الملونة وحبيبات الخرز، المشغولة بحرفية متقنة، فوق الرفوف، بانتظار سائح عابر في المكان يرغب في اقتناء واحدة منها. وأبرز أسباب المشاكل التي تعانيها هذه الحرفة، هو غياب التشجيع الرسمي والعام، بدءاً من البلدية وصولاً إلى وزارة الشؤون الاجتماعية التي أطلقت «بيت المحترف اللبناني» الذي اشترى كميات من الأعمال الحرفية الزجاجية بأسعار «محروقة»، ثم توقف عن الشراء، لا بل لم يدفع ثمن البضاعة التي اشتراها من الحرفيين منذ نحو سنتين!
يعيد مصنع الصرفند الذي توارثه حسين خليفة وأشقاؤه عن أبيهم محمود الذي ورثه عن أبيه عبّاس، تدوير الزجاج الملون أو الشفاف المجموع من القوارير الزجاجية على أنواعها من مخلفات المطاعم والزجاج المحطم بيد أن «مادة الزجاج ليست هي المشكلة، فطن الزجاج لا يتعدى سعره مئة ألف ليرة، لكن المشكلة في المحروقات التي يفترض أن تكون أسعارها مخفوضة لمثل هذه الحرف، إضافة الى كلفة الكهرباء المرتفعة».
حاول آل خليفة في الصرفند إنشاء معرض سياحي لنفخ الزجاج الشفاف والملون، لكن المشروع اصطدم بالمعوقات المادية، إذ يحتاج إلى مبلغ تأهيل يتجاوز 35 ألف دولار أميركي. وسعوا للحصول على قرض مصرفي، ولم يوفقوا بذلك، إذ يحتاج الأمر إلى كفالات غير متوافرة. وهم يعولون في بعض المبيعات على المعارض التي تقام أحياناً على مختلف الأراضي اللبنانية. وشاركوا في معارض في فرنسا، وفي «معهد العالم العربي» و«مون بليه» وفي «القرية العالمية» في دبي، «لكن المعارض هذه السنة كانت قليلة، وكذلك السياح الذين منعتهم الظروف الأمنية من المرور على الخط الساحلي القديم الذي يمرّ في الصرفند، حيث يقع معرضنا المتواضع، وصاروا يعبرون على الأوتوستراد السريع خارج البلدة، ومن يحضر إلينا يأتي بالعنوان من وزارة السياحة، التي لا تعرف محترفنا، ولم تزره يوماً!».
عُرفت هذه الصناعة في الصرفند منذ أكثر من 1700 سنة، وتطورت هذه الصناعة بشكل واضح في الصرفند بعدما توارثها بعض أبناء البلدة من جيل الى جيل. وتتطلب هذه الصناعة مهارات تدريبية معينة قد تستغرق من 3 الى 4 سنوات لإتقانها، وإن أهم متطلبات العمل في هذه المهنة هو تحمل مشقة العمل أمام أفران الشي، وتوافر الروح الإبداعية والفنية عند العامل لاكتساب مهارات
التشكيل. وتعد هذه الصناعة صديقة للبيئة نظراً إلى اعتمادها على مخلفات الزجاج مادةً خاماً أساسيةً، إضافة الى بعض الأصباغ والملونات. ولا شك في أن طبيعة العمل في هذه المهنة، والجهد المبذول الذي لا يتناسب مع المردود المادي، أدّيا إلى تراجع الإقبال على تعلم هذه المهنة وتقهقر هذا الفرع الصناعي ذي المغزى التراثي.
وكان معمل الصرفند اليدوي يشغّل نحو أربعين معلماً قبل السبعينيات. أما اليوم فيعمل فيه ستة معلمين من عائلة واحدة، وهم من يشغّلون المصنع المتواضع، الذي يعتمد في أكثره على التذويب في الفرن والنفخ والتدوير. وقد كانوا ثمانية قبل هجرة اثنين من محترفي العائلة إلى أستراليا وإفريقيا. وفي أيام العطل، وهي كثيرة، ينصرف معلمو الحرفة إلى العمل في التجارة أو الصيد في البحر القريب.
وما يميز هذه الصناعة في الصرفند، ألوانها الشفافة المتعددة: من الشفاف الأبيض المتقن، الأحمر، الأصفر، الأزرق، الأخضر، إلى العسلي، ومشتقات هذه الألوان أحضر أصحاب المعمل صبغتها «الأصلية» من ألمانيا.
ويقتصر النفخ على حرفيات صغيرة مختلفة هي للهدايا أكثر منها للاستخدام اليومي، وقد طليت بعض المصنوعات الحرفية بأكثر من لون، فدخل بعضها في عملية النفخ والصهر ليتحول إلى زجاج رقيق يموج بالحبيبات الملونة، وطُعّم البعض الآخر القليل بالنحاس والحديد، أو بالزجاج عينه على شكل زخرفة وخطوط. وهي تعرض اليوم في واجهات دكان متواضع قرب الشارع العام في الصرفند، بعدما أوقف المعمل تصنيع الأباريق الكبيرة والخوابي والغالونات والمراطبين و«الألفيات». وبقيت على الرفوف «قوالبها» التي يعود عمر بعضها إلى أكثر من سبعين سنة.
يعتبر الزجاج المادة الصناعية الأقدم تاريخياً، ومكتشفوه الأوائل هم المصريون الذين نفخوا فيه وحولوه إلى كتل دائرية، صنعها الحرفيون في ما بعد في أشكال جميلة. تنتشر هذه الصناعة في منطقتين لبنانيتين: البداوي، القريبة من مدينة طرابلس والصرفند، التي تقع على بعد 14 كيلومتراً من