أميركا.. ماذا فعلت بنا وماذا فعلنا بها؟!
كثير من المحللين يتوقعون ألا يتوقف تراجع الدور الأميركي في العالم قبل هوة المنحدر، وأن تلك الدولة السامقة مقبلة على أفول لا مفر منه، وأن الخط الصاعد لها قد بلغ آخر نقطة له بحيث لا يُنتَظر لها أن ترى بعد هذا الخريف ربيعا.
ولعل كثيرا من هذه التحليلات؛ الأميركية وغير الأميركية، يجد مصداقه في الأزمات المتتالية التي صارت تثقل كاهل الدولة الكبيرة دون أن تجد لها حلا، وتضرب فيها من لحظة تاريخية إلى أخرى مكمنا من مكامن القوة التي كانت الولايات المتحدة تزهو بها قبل وقت قصير.
لقد كانت الوفرة والرفاه الاقتصادي، والأمن، والحرية، والديمقراطية وغيرها مكامن لقوة الدولة الأميركية، إلا أن كثيرا من هذه الأشياء زعزعتها ضربات متتالية أوهنت البدن الأميركي وأثقلته بما يحتاج إلى كثير من الجهد للخلاص منه.
وفي هذا السياق نذكر أن تفجيرات نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 –وهو حدث صغير بالنسبة لدولة كبيرة- والإجراءات التي تلتها قد عصفت بأمن المواطن الأميركي وجارت على حريته، والأزمة المالية العالمية حولت الاقتصاد الأميركي المتعَب أصلا إلى شيخ أنهكته السنون وما زال يتجه إلى مجهول مخيف.
إن الإنسان محكوم بقواعد وقوانين في شتى النشاطات الحياتية التي يمكن له أن يمارسها، ولا يمكن له أن يصبح كائنا متفلتا دون أن يُحاسَب على تفلته.
وإذا كانت القوانين الطبيعية صارمة، فإن للحياة الاجتماعية قوانين قد تكون أشد منها صرامة؛ وذلك أن الإنسان لا يمكنه أن يحول مسار القانون الاجتماعي الضاغط عليه إلا بتغيير مسار حياته نفسه، وفي وقت مناسب كذلك، في حين أننا نتحايل أحيانا على قوانين الطبيعة لنجلب منها نفعا أكثر، أو ندفع ضرا.
وهذه النواميس الاجتماعية هي الباب الخطير الذي تتآكل من خلاله عوامل القوة في أي مجتمع لا يراعيها، بقطع النظر عن الجغرافيا والتاريخ. والحالة الأميركية الحالية تمثل مجتمعا جديدا وأرضا جديدة نعاين من خلالهما هذه الأمور التي قرأنا عن أمثلة أخرى لها في صفحات التاريخ.
ولسنا هنا في موضع المودِّع بيقين لأميركا القوية إلى الأبد؛ فما هذه إلا قراءات تبدو في عين المتابع راجحة وشبيهة باليقين، وإن لم تَكُنْه. ولكنا في موضع المقوِّم للسلوك الأميركي مع دول العالم وشعوبه؛ خاصة الإسلامية والعربية منها.
فعلت لنا
في مبالغة لا تخلو من الصحة وصف هنري لوس القرن العشرين بـ "القرن الأميركي"، فقد طبعت الولايات المتحدة العالم منذ الحرب العالمية الثانية بطابع خاص، فألبسته الجينز، وسقته البيبسي والكوكا كولا، وأطعمته وجبات كنتاكي وماكدونالدز، وأسمعته موسيقى الجاز والبوب الأميركية وأغاني مايكل جاكسون ومادونا، وأسرت أطفاله بأفلام ديزني لاند، وكبارَه بأفلام هوليود، وأقرأته أعمال وليم جيمس وجون ديوي الفلسفية، وآرثر ميللر وأرنست هيمنجواي الأدبية. لقد أثرت أميركا في سمع العالم المعاصر وبصره وثقافته وتقاليده بلا شك، ولم تكن في هذا مجرد خليفة إمبريالي عادي لأوروبا العجوز، بل ظهرت الولايات المتحدة بطابع جديد وغير معتاد وثقافة تشترك فيها مع الأوروبيين في المذاق العام، ولكنها ذات معالم وتفاصيل تختلف فيها عما قدمته القارة الأوروبية للعالم.
ومع هذا التأثير الأميركي الذي لم تقاومه أعتى الثقافات وأشدها تقليدية في العالم، مما قد يبدو للكثيرين سطحيا، فإن الأميركيين قدموا للعالم بأسره خدمتين كبيرتين غيرتا وجه التاريخ المعاصر، ولا ينكر هذا ذو رأي وإنصاف:
الأولى: مواجهة النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية ضمن دول التحالف الروسي الإنجليزي الفرنسي حتى سقوط نظامي هتلر وموسوليني.
الثانية: مواجهة الشيوعية السوفياتية حتى اضمحلت وسقطت هي الأخرى في أعقاب حرب باردة لكنها باهظة التكاليف.
ومن حق المعترض أن يقول هنا: إن أميركا لم تفعل ذلك لأجلنا، ولا كان في بالها أصلا أن تقدم شيئا ينتفع به المسلمون ولا الشرقيون عموما.
لكن لمن لا يعرف، فإن الخطاب السياسي والفكري الأميركي في الحرب العالمية الثانية كان يعتبر –إنْ صدقًا وإن كذبًا- مواجهة النازية والفاشستية والتغلب عليهما دفعا للشر؛ ليس عن أميركا وحدها، ولكن عن العالم بأسره. وكذلك كان عموم الخطاب الأميركي في عنفوان المعركة مع الشيوعية العالمية.
أضف إلى ذلك أن المسلمين حين خدموا العالم بمواجهة التتار ودحرهم في القرن السابع الهجري، لم يكن قصدهم إلا دفع كارثة الفناء عن الأمة والملة الإسلامية خاصة، ومع ذلك فإن هذا الإنجاز معدود -حتى بأقلام كثير من المستشرقين والدارسين الغربيين- ضمن الخدمات الكبرى التي قدمها المسلمون لإنقاذ العالم من الهمجية.
ومن حق المعترض –بعد هذا- أن يقول أيضًا: إن أميركا لم تكن أقل شرا من النازية والفاشية والشيوعية، فإن كانت قد أنقذت العالم من هذه الكوارث، فقد كانت هي نفسها كارثة مماثلة لها أو أكبر منها.
ولا نريد هنا أن نتكلم عما فعلت أميركا بنا طوال العقود السبعة الماضية قبل أن يأتي أوانه في عنوان قادم ضمن هذه السطور، لكن نريد فقط أن ننصف الأميركيين عند مقارنتهم بأصحاب الأيديولوجيات السابقة، ولعل أكبر فرق بينها وبينهم هو أن الغالب على الحالة الأميركية هو العمل على تحصيل المنفعة الاقتصادية أو السياسية ولو بوسائل "قذرة" دون رؤى أيديولوجية متطرفة تقف وراء هذا غالبا، في حين أن النازية والفاشية –كما بدا من سلوكهما العملي - هي رؤى عنصرية شديدة التطرف، وليس لديها ما يزعها عن التدمير والقتل بلا حدود في سبيل مشروعاتها القومية.
وأما الشيوعية، فقد كانت تبشر بعصر سيادة الطبقة العاملة، في مقابل هدم كل شيء بوتيرة من الدمار لا تقف عند حدود، والنتيجة هي الخسارة للجميع.
فعلت بنا
مما سبق ندرك أن منبع الأخطاء الأميركية جاء، في الغالب، من غرور القوة الذي يصيب الدول القوية عادة، فيغريها بالتقدم إلى نقاط تماس تزداد معها فرص الجور والتعدي على حقوق غيرها من الأمم والدول. وإذا كانت مطامع الإنسان الفرد في الثروة والمال لا تقف عند حد "لو أن لابن آدم واديا من ذهب، لابتغى أن له إليه مثله" فإن مطامع الدولة القوية في السيادة والسيطرة أشد؛ لما تملك من أسباب القوة التي لا تتاح للأفراد.
وقد تأخذ هذه المطامع شكلا منطقيا عند أصحابها، فترى الدولة القوية أن من حقها أن تبسط سيطرتها على المفاتيح الجغرافية ومواطن الثروات المهمة في العالم؛ لما في تركها في يد أطراف أخرى من مخاطر عليها، وتضع عراقيل في طريق بعض الشعوب والدول؛ بسبب ما تتوقعه منها من أضرار قد تجرح هيبتها، أو تسقط مكانتها العالمية.
ولسنا هنا في موضع التماس الأعذار للسلوك الأميركي، ولكنها محاولة لفهمه وفق إطار عام لا يخص هذه الدولة، بل هو عام في كل دولة يتحقق لها شيء من القوة.
ويبدو أن هذا التمدد اللانهائي الذي تحاوله كل دولة قوية، هو مكمن الاستدراج السري الذي تتعرض له، بحيث لا تبقى السيطرة في يدها طويلا، بل يتم تداول السيطرة العالمية بين الأمم من مرحلة إلى أخرى.
مهما يكن، فإن السياسة الأميركية تجاه العالم الإسلامي –الذي يهمنا قبل غيره- لم تكن جائرة فحسب، بل وصلت إلى حد الإجرام والخروج على كل مبدأ سويّ في حالات يصعب إحصاؤها، والشواهد على هذا كثيرة في الواقع القائم وفي صفحات التاريخ المعاصر على السواء، إلا أن ذلك يمكن تصنيفه فيما يلي:
- التعدي على حرية الشعوب بالاحتلال المباشر أو المعاونة غير المحدودة للمحتلين، وهو أمر ظاهر للعيان في فلسطين وأفغانستان.
- المناداة بالديمقراطية والضغط على الأنظمة لأجلها إذا كان في ذلك فائدة للأميركيين، ومعاونة الأنظمة غير الديمقراطية في مصادرة حقوق الشعوب إذا كانت الفائدة الأميركية في مخاصمة الديمقراطية.
- عدم الإنصاف في انتفاع الدول والشعوب بثرواتها الطبيعية، واستغلال الخبرات الأميركية في استنزاف هذه الثروات في صورة نهب حقيقي أو مموَّه.
ولا يبدو أن في قدرة أحد أن يجد عذرا للأميركيين في هذا السلوك غير السوي تجاه الشعوب والأمم الأخرى، ولهذا ارتفعت الأصوات الناقدة للسياسة الخارجية الأميركية من قلب الولايات المتحدة نفسها قبل غيرها، كما نقرأ عند تشومسكي وأضرابه.
وليس من طبيعة الإنسان أن يحب من يظلمه، ولا من فطرته أن يحمل مودة لمن يجور على حقوقه، ويعتدي على حرماته.
أما الذي من طبيعة الإنسان وفطرته حقا، فهو أن يترجم البغضاء لظالمه إلى فعل مضاد متى أتيح له وأمكنته الفرصة من ذلك.
وليس ثمة تصرف معاد للأميركيين من دولة إسلامية، مثل قطع إمدادات البترول عن الغرب في سبعينيات القرن الماضي، أو جماعة مسلمة مثل مقاومة طالبان أفغانستان للاحتلال الغربي الأميركي، إلا ويمكن وضعه ضمن هذا الإطار.
ومن الممكن أن ننتقد بعض التجاوزات التي جرت وتجري في هذا الإطار، لكننا سنجد من يسوغها بتجاوزات أميركية مماثلة أو أكبر منها، أو بأن الحرب ميدان مفتوح ولا يمكن قصر نطاق الضرر فيه على فئة من "العدو" دون أخرى.
لقد كان العالم العربي والإسلامي من أكثر بقاع العالم استعدادا لعقد صداقة عميقة مع الأميركيين في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ لأن أيديهم لم تكن قد تلوثت حينئذ بالاستعمار وجرائمه البشعة، كما بقي صدى تصريح الرئيس ويلسون حول حق الشعوب في تقرير مصيرها يتردد بين الأمم الباحثة عن حريتها، وبدا صداه واضحا مثلا في محاولات سعد زغلول لتحقيق الاستقلال لمصر في الربع الأول من القرن العشرين.
لقد أعطى الأميركيون أنفسَهم إبان الاستقلال الأميركي الحق في الثورة على البريطانيين، ورفض أي وصاية عليهم من لندن، برغم الاتفاق العرقي والديني والثقافي بينها وبينهم. وليس ثمة عاقل يمنع هذا الحق أمما وشعوبا مظلومة تقف مع الأميركيين على ضفاف ثقافية وعرقية ودينية مختلفة.