الفرق بين علم
الأصوات وعلم التجويد
إن تدريس هذين العلمين في الجامعات العربية في زماننا يترك انطباعاً
بأنهما علمان مختلفان ، فعلم الأصوات اللغوية يُدَرَّسُ في أقسام اللغة
العربية في كليات الآداب والتربية ، وكذلك في أقسام اللغات الأجنبية ،
بوصفه من علوم اللغة ، بينما يُدَرَّسُ علم التجويد في أقسام العلوم
الإسلامية ، بوصفة من علوم القرآن ، وهناك شبه جفوة بين القائمين على
تدريس هذين العلمين ، في المناهج والوسائل ، بسبب عوامل تاريخية أدت إلى
هذه الحالة.
لكن هذه الصورة لا تعبر عن الحقيقة العلمية لهما ، ولا تعكس الأصول
المشتركة التي تربطهما ، ولإيضاح العلاقة بين العلمين وبيان مدى اتفاقهما
واختلافهما ينبغي التعريف بالعلمين ، وتاريخ كل منهما ، والموضوعات التي
يتناولانها ، بقدر ما تسمح به هذه العجالة .
أما علم التجويد
: فإنه ظهر علماً مستقلاً في
تراثنا العربي الإسلامي في القرن الخامس الهجري ، حين تمكن علماء قراءة
القرآن من استخلاص المباحث الصوتية من كتب علماء العربية ووضعها في إطار
علم جديد ، أُطْلِقَ عليه هذا الاسم منذ ظهور المؤلفات الأولى فيه ، مثل
كتاب ( الرعاية لتجويد القراءة ) لمكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة
437هـ ، وكتاب ( التحديد في الإتقان والتجويد ) لأبي عمرو عثمان بن سعيد
الداني المتوفى سنة 444هـ .
وتتابع التأليف في هذا العلم في الحقب اللاحقة لظهور مؤلفاته الأولى ، ولم
ينقطع التأليف فيه حتى وقتنا الحاضر ، وقد تنوعت مناهج التأليف فيه
وأساليبه بين النظم والنثر ، والإيجاز والتفصيل ، والابتكار والتقليد ،
وكانت السمة الغالبة على تلك المؤلفات المحافظة على صورته الأولى ، مع
إضافات متميزة لبعض علماء التجويد في بعض العصور ، لكن ذلك لم يغير من
صورته التي استقر عليها .
أما علم الأصوات
: فيُعَدُّ من العلوم اللغوية
الحديثة في العربية ، وظهرت بوادر التأليف فيه في العربية على يد
المستشرقين في النصف الأول من القرن العشرين ، لكن أول مؤلف كُتِبَ فيه
بالعربية في العصر الحديث هو كتاب " الأصوات اللغوية " للدكتور إبراهيم
أنيس ، الذي صدرت طبعته الأولى في القاهرة سنة (1947) ، وتوالت المؤلفات
فيه وتكاثرت بعد ذلك ، وغلب على تلك المؤلفات الاعتماد على الدراسات
الصوتية الغربية ، وترجمة نتائج تلك الدراسات إلى العربية ، مع الإشارة
إلى جهود علماء العربية مثل الخليل وسيبويه وابن جني في ميدان دراسة
الأصوات ، لكن جهود علماء التجويد على ضخامتها لم تحظ بالعناية منهم ، بل
إنها تكاد تكون مجهولة في الكتابات الصوتية العربية الحديثة والمعاصرة .
وتقدمت دراسة الأصوات اللغوية في العقود الأخيرة لدى الغربيين ، واستفادت
كثيراً من مختبرات الصوت والأجهزة الحديثة التي تستعمل في دراسة الصوت
وتحليله ، وتنوعت مناهج تلك الدراسة ووسائلها وموضوعاتها ، وتمخض عن ذلك
ثلاثة فروع لعلم الأصوات ، هي :
(1) علم الأصوات النطقي ، ويعنى بعملية إنتاج الصوت اللغوي .
(2) علم الصوت الفيزياوي ، ويعني بطبيعة الصوت الإنساني ، وكيفية انتقاله من مصدر
التصويت إلى أذن السامع .
(3) علم الأصوات السمعي ، ويعنى بكيفية إدراك الإنسان للصوت اللغوي.
وانعكست آثار ذلك التقدم في دراسة الأصوات اللغوية على كتابات الأصواتيين
العرب ، وظهر عدد من المؤلفات التي تستند إلى ما تحقق من تقدم في مجال
دراسة الأصوات ، لكن دراسة علم التجويد ومؤلفاته في العصر الحديث ظلت في
معزل عن ذلك كله ، ومن هنا صار يُنظر إلى العلمين كأنهما مختلفان موضوعاً
ومنهجاً ، لكنهما في الحقيقة من وادٍ واحد ، ويؤولان إلى أصل واحد ، ولعل
في النظر في تاريخ العلمين وطبيعة كل منهما والموضوعات التي يتناولانها ما
يؤكد ذلك ، وهذه نظرة سريعة في تلك الجوانب :
(1) النشأة : إن "علم
التجويد" أقدم نشأة من
(علم الأصوات) بما يقرب من عشرة قرون ، فالمؤلفات الجامعة في علم التجويد
ظهرت في منتصف القرن الخامس الهجري ، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار سبق
الغربيين إلى تأسيس علم الأصوات الحديث منذ القرن السابع عشر أو القرن
الثامن عشر ، فإن علم التجويد يظل أقدم نشأة منه بستة قرون أو سبعة قرون .
(2) التسمية : إن مصطلح
" علم التجويد " استعمل
للدلالة على المباحث الصوتية المتعلقة بقراءة القرآن الكريم ، وكانت تلك
المباحث مختلطة بالمباحث النحوية والصرفية لدى علماء اللغة العربية ، ولم
يفردوها بمصطلح خاص أو علم مستقل ، وقد حاول ابن جني ذلك في كتابه ( سر
صناعة الإعراب ) حين عبَّر عن موضوع الكتاب بـ ( علم الأصوات والحروف ) ،
لكن من جاء بعده من علماء العربية لم يوفقوا في استثمار تلك اللمحة من ابن
جني والبناء عليها ، حتى تمكن علماء قراءة القرآن بعده من استخلاص المباحث
الصوتية من كتب علماء العربية ، وأفردوها في كتب خاصة ، واختاروا لها
تسمية جديدة ، كانت في أول الأمر تتكون من عنصرين : الأول المخارج والصفات
، والثاني التجويد والإتقان ، فسمَّى مكي بن أبي طالب كتابه " الرعاية
لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة بعلم مراتب الحروف ومخارجها وصفاتها
وألقابها " ، لكن معاصره أبا عمرو الداني سمى كتابه " التحديد في
الإتقان
والتجويد " ، ثم غلبت كلمة التجويد في عناوين الكتب التي ألفها العلماء في
العلم من بعدهما .
أما مصطلح " علم الأصوات اللغوية " فإنه مصطلح جديد ، استعمله المتخصصون
بعلم اللغة العربية في العصر الحديث ، وجاء ترجمة للمصطلح الغربي الدال
على هذا العلم ، ودرسوا تحته مباحث صوتية قديمة سبق إلى دراستها علماء
العربية والتجويد ، ومباحث صوتية جديدة نقلوها من الدرس الصوتي الغربي ،
على نحو ما يتبين في الفقرة الآتية .
(3) الموضوعات : تتلخص
موضوعات علم التجويد في ثلاثة أمور ، هي :
أ: معرفة مخارج الحروف .
ب: معرفة صفات الحروف .
ج: معرفة الأحكام الناشئة عن التركيب ، مثل الإدغام والإخفاء ، والترقيق و
التفخيم ، والمد والقصر ، وغيرها من الموضوعات الصوتية المتعلقة بقراءة
القرآن الكريم .
وتعد هذه الموضوعات من أهم موضوعات علم الأصوات اللغوية المعاصر ، لكن هذا
العلم يدرس اليوم إلى جانب ذلك موضوعات أخرى بعضها يتعلق بعلم الأصوات
النطقي ، مثل آلية إنتاج الصوت اللغوي ، والمقطع الصوتي ، والنبر والتنغيم
، وبعضها يتعلق بعلم الصوت الفيزياوي وعلم الصوت السمعي ، وبعض هذه
الموضوعات الصوتية الحديثة مما يحتاج إليه دارس علم التجويد ، لو أتيح له
الاطلاع عليها .
(4) المصطلحات : يستخدم علم
أصوات العربية
المعاصر معظم المصطلحات الصوتية التي استخدمها علماء العربية والتجويد
،وقد فضَّل بعض الدارسين مصطلحات عربية جديدة جاءت ترجمة للمصطلحات
الصوتية الغربية ، ففي الوقت الذي استخدم فيه معظم المحدثين مصطلح المجهور
والمهموس ، فإن بعضهم آثر مصطلح الانفجاري والاحتكاكي بدلاً من الشديد
والرخو ، ولا يزال موضوع المصطلح الصوتي عند المحدثين من الموضوعات التي
يكثر فيها الاختلاف والاضطراب ، لاسيما في التعبير عن المفاهيم الصوتية
الحديثة ، وبعض ذلك راجع إلى عدم اطلاع الأصواتيين العرب المحدثين على
كثير من التراث الصوتي عند علماء التجويد .
(5) وسائل
الدراسة : اعتمد علماء العربية
الأوائل وعلماء التجويد على الملاحظة الذاتية والتجربة الشخصية في دراسة
الأصوات ، ولا تزال هذه الوسيلة من الوسائل المهمة في الدرس الصوتي الحديث
، لكن التقدم العلمي قد وضع في أيدي علماء الصوت وسائل جديدة تعتمد على
الأجهزة الحديثة ، وتمكنوا من خلالها من إحراز تقدم هائل في فهم الصوت
اللغوي والكشف عن أسراره ، ولا يستغني المشتغلون بعلم التجويد وتعليم
قراءة القرآن من الاستفادة من هذه الوسائل الحديثة ، إذا ما توفرت
المستلزمات الضرورية لذلك .
ويبدو من خلال هذا العرض الموجز أن أصل العلمين واحد ، وأن الموضوعات التي
يدرسانها واحدة ، سوى أن علم التجويد يركز على المباحث الصوتية التطبيقية
المتعلقة بقراءة القرآن ، وأن علم الأصوات يعنى بكل المباحث المتصلة
بأصوات اللغة ، وأحسب أن ما يبدو من اختلاف بين العلمين في بعض الموضوعات
والمصطلحات والوسائل إنما هو خلاف شكلي سوف يتلاشى في المستقبل القريب ،
إن شاء الله تعالى ، بسبب زوال الموانع بين المشتغلين في ميدان التجويد
والمشتغلين بعلم الصوت الحديث ، وحرص الكثير منهم على خدمة القرآن الكريم
بأحدث ما وصل إليه العلم ، مع عدم التفريط بثوابت القراءة القرآنية ، هذا
والله تعالى أعلم.