هذهقصيدةواقعية وليست من خيالي. نظمتها في رثاء أمي الحبيبة في الأسبوعالأول بعدوفاتها قبل عامين بتاريخ 12/8/2008 تحت ضغط ظروفٍ موضوعيةٍونفسيةٍ خاصةأعطت للقصيدة بعض الخصوصية في مضمونها.
أم تَرثي نفسها
د. طاهر عبد المجيد
أتـى اليومُ الذي ما مِنـه بُـدُّ
ولا مِنْ بعـدِهِ في العمرِ بَعْـدُ
وكنتُ أظنُّــهُ عنـي بعيـداً
إلى أنْ جاءَ مثلَ الريحِ يعـدو
كأنّي لـم أعشْ مـن قبلُ يوماً
ولـم يعبثْ بنبضِ القلـبِ جُهدُ
ولـم أُرضِعْ صغيراً ما بقلبـي
كما لـو أنّ هـذا القلبَ نهـدُ
تُرى هـل بينَنا يا مـوتُ ثأرٌ
قـديمٌ جئتَ تطلُبُــهُ وحقـدُ؟
أم الشـوقُ الذي تخفيـه حيناً
على مضضٍ وحين تجوعُ يبدو؟
بـِودّي لـو تجرّبُ ما نعانـي
وتـُدركُ ما الـذي يَعنيـهِ فَقدُ
وكيف بنا تُحسُّ وهـل سيحنو
علـى ضـدٍّ من الأضدادِ ضـدُّ؟
فكيـفَ وأنتَ مـا ولدتـكَ أمٌ
ولـم تُنْجِب ولم يحضنكَ مهـدُ؟
وتحيـا بيننا مـن غيـرِ قلبٍ
وإن يـكُ فيك قلبٌ فهو صلدُ؟
أنا الأمُ التـي خُلقـتْ لتُعطـي
ومـا لعطائهــا إلاكَ حــدُّ
أنا الأمُ التي انتظـرتْ طويـلاً
ولـم يفِ حَقها في الخلقِ فردُ
أنا بحـرُ العطـاءِ وكـلُ بحرٍ
سـوايَ أنا لـه جـزرٌ ومـدُّ
أجـودُ بمـا لـديَّ ولا أبالـي
إذا مـا نابنـي هجـرٌ وصـدُّ
***
فيـا أحبـابَ قلبـي صدِّقوني
قضـاءُ الله لـم يكتبْـهُ نَـرْدُ
هـو القدرُ الذي إنْ قـالَ شيئاً
فمـا فـي قولــهِ أخـذٌ وردُّ
ويبـدو أنني استوفيْتُ عُمري
ورزقـيَ كلَّـهُ واليـومَ جَـردُ
وعشـتُ بقدرِ ما يكفـي وهذا
نصيبي في الحياةِ فـلا تَحِـدُّوا
ولا تبكـوا علـيَّ فذاتَ يـومٍ
سيجمعُنـا إلـى الجنّاتِ خلـدُ
وهـذي حـالُ دنيانا فشـيءٌ
بهـا يَفنـى وشـيءٌ يَستجـدُّ
وهـل أعطـت لنا الأيامُ شيئاً؟
فلـم تأخذْهُ أو هلْ دامَ سعـدُ؟
ومـا الأرواح فـي الأجسادِ إلا
ودائــع ذات يـومٍ تُستـردُّ
ولـو أنَّـا سَـددنا كـلَ بابٍ
سيبقـى المـوتُ باباً لا يُسـدُّ
ننازعـهُ السعادةَ دونَ جدوى
ومَـنْ منّا لهـذا المـوتِ نِـدُّ
ولا ننفـكُّ نطلبهــا كحُلــمٍ
ودونَ بُلوغِها للمـوتِ عهـدُ
وتبقـى مثلَمـا كـانت سراباً
ضحـاياهُ الكثيـرةُ لا تُعــدُّ
***
لقـد أغضبتُكـم زمناً طويـلاً
بقــولٍ كلّــهُ عَتبٌ ونَقـدُ
وكنتُ أظُــنُّ أنِّـي بانتقادي
أُتَمِّمُ مـا بَنيـتُ ولا أهُـــدُّ
فإنْ آذيتُكـمْ وجرحـتُ فيكـمْ
مشاعِرَكـمْ فمـا لي فيه قصدُ
وإنْ عاتبتُكــمْ فعتــابُ أمٍّ
لكــمْ في قلبهـا سَنَدٌ يَـردُّ
وعـذراً إن قسـوتُ به قليلاً
ففـي بعضِ العتابِ المرِّ شهدُ
أكـانَ علـيَّ أنْ أختارَ موتـي
ليجمـعَ بينكـم حـــبٌ وودُّ
وأنْ أُخلـي مكاني كـي يراني
حبيبٌ ربمــا أعمـاهُ وَجـدُ
فكـم شيءٍ توارى عنْ عيونٍ
لشـدَّةِ قُربــهِ أبداهُ بعــدُ
وكــم شيءٍ تراه العين شرَّاً
وفـي أعماقــهِ بالخيرِ وعدُ
وكـم من أنفسٍ بالحزن طابت
ولـمَّ قلوبهـا بالحـزن عِقـدُ
ولـو أدركـتُ أنْ سيجيءُ يومٌ
ويَجمعُكـم أمـامَ القبــرِ وَردُ
لكنتُ اختـرتُ مَوتيْ من زمانٍ
ولكـنْ دونَ علـمِ الغيبِ سَـدُّ
بـودِّي لــو أعانقكـم قليلاً
لتُشـرق بسمــةٌ ويجفَّ خدُّ
وآتـي تحتَ جُنـحِ الليلِ طيفاً
لأحضنَكـم إذا مـا اشتدَّ بَـردُ
فـإنْ نمتـم أقبِّلكـمْ وأمضي
إلـى بيتـي فبيتـي الآنَ لحدُ
وأرجـعُ مع رحيلِ الليلِ فجراً
كعصفـورٍ على الشُّباكِ يَشدو
أسجِّـلُ مـا أراه على شريطٍ
من الذكرى يروحُ معي ويغدو
***
أحبَّائــي رحلـتُ بـلا وداعٍ
وبي شـوقٌ لكـي أبقـى يشدُّ
كـأن المـوت يعنـي كلَّ حيٍّ
سـوايَ أنا وعُمـري لا يُحـدُّ
شُغلتُ عن الوصيَّة في حياتـي
بدنيـا كلُّهــا هــمٌّ وكــدُّ
وهـا أنذا أقـولُ لكـم بموتي
ليــومٍ مثـل هــذا إِستعدُّوا
فإنَّ المـوت يعمـلُ في خفاءٍ
ولا أحــدٌ يُحسُّ بمـا يُعــدُّ
يُصـوِّبُ كــل آونــةٍ إلينا
سهامـاً لا تَطيشُ ولا تُــرَدُّ
سهامٌ لا تُفـرقُ بين كهـــلٍ
وطفـلٍ لـم يزلْ في المهدِ بعدُ
لكـم مـن هـذه الدنيا نصيبٌ
فـلا يَذهبْ بـه سَفـهٌ وزُهـدُ
وجِـدّوا فـي عبادَتِكـم فإني
وجـدتُ اللهَ لا يُجزيـهِ حَمـدُ
ومـن يجعـل له الرَّحمنُ نوراً
يسيرُ بـه فلـن يُؤذيــه كيدُ
وكونـوا للحقيقــةِ أوفيـاءً
فـلا أحـدٌ بـرأيٍ يستبــدُّ
ومـا أهــواؤنا إلا مــرايا
ترينـا مـن هو الخصـم الألدُّ
إذا الشيطان فرَّقكـم فكونــوا
كأجفـانٍ يفرقهـــنَّ سُـهدُ
وكونوا في خصومتكـم غيوماً
يسـابقُ غيثَهـا بـرقٌ ورعدُ
يهـونُ الصعبُ حين يرى أيادٍ
تصيـرُ يـداً إذا ما جَـدَّ جِـدُّ
وأمـا أنتَ يـا مـنْ كلَّ يومٍ
تُحرِّرنـا يـداكَ وأنتَ عَبــدُ
لقدْ حرّرْتَني مـن أسرِ جسمي
فـإنَّ الجسـمَ للأرواحِ قيــدُ
وفي جسمي من الأدواءِ ما لمْ
يُطـقْ جبلٌ علـى الأهوالِ جَلْدُ
أَخذتَ بأخـذهِ خجلي وخوفـي
فهـا أنـذا أبـوح بمــا أَودُّ
أسـلُّ القول حين أريدُ ما لـي
سوى صمتي لهـذا القول غِمدُ
فكمْ خجلي بنى لي من سجونٍ
علـى أرجائهـا حرسٌ وجنـدُ
وكـم خوف الملامة شلَّ عقلي
ونغَّصَ عيشتي والعيشُ رغـدُ
ولكـن ما يُعزِّي الـروح أنّي
أموتُ ولي مـنَ الأحبابِ حَشدُ
وأنكَ حينمـا ستمـوتُ يومـاً
وحيداً سـوفَ لـن يَبْكيكَ وُلْدُ
د. طاهر عبد المجيد
20/8/2008