الصديقة بنت الصديق،حبيبة رسول الله ومصدر سعادته، الكريمة من بيت الكرام الذي اشتهر بتدليلنسائه.. في الوقت الذي كانت فيه المرأة حملا ثقيلا يستنفد القوت كان بيتأبيها أبي بكر مثالا يحتذى به في التحضر في معاملة المرأة، وندر من أبنائهمن لم يكن له شأن يذكر في باب المحبة بين الأزواج.
أمنا عائشة.. حواء في أبهى صورها، والتي عرفتنا بجانب -كان يصعب علينا معرفته دونها- من خلق الرسول الكريم؛ رسولنا الذي قال لأصحابه (خيركم خيركم للنساء) و(ما أكرم النساء إلا كريم ولا أهانهن إلا لئيم) بلغ في الرفق بأزواجه فوق ما توجبه الشريعة؛ بساما ضحوكا يخدم أزواجه ويزورهن جميعا في الصباح والمساء.
بشرية الرسول:
كانصحابته ينظرون إليه في مهابة وتقديس، لا يفهمون وقار الدين كما يفهمه، ولاتتسع صدروهم لما يتسع له صدره، حينما مات ابنه إبراهيم تعجبوا من بكائه–وهو النبي المرسل– وتصوروا أن نبوته تعصمه من حزن القلب ودموع العين،ونسوا أن محمدا كان مثال الرجل الكامل كما خلقه الله تعالى، يعجب بالجمالويسر بالملاحة ويحب النساء.
قالها الرسول الكريم:حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة.. وبرغم هذاالحديث الواضح نلتمس تبرير زواجه بكفالة الأرامل وجبر الخواطر وعقدالمعاهدات وكأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يملك قلبا يحب ويخفق.. الرجلالكامل لا يعيبه ميله الفطري للنساء، المهم ألا يشغله هذا الميل عنواجباته الكبرى ومهامه العظمى؛ فهل الرجل الذي هم بطلاق نسائه وهجرهن شهرامن أجل مطالبتهن له بزيادة النفقة يوصف بذلك؟.. كيف يلمز رجل خيّر نساءهبين عيش المساكين معه وبين طلاقهن مع التمتع بزينة الدنيا وهو قادر علىحياة الترف –إن شاء– بمجرد إشارة؟.
نعم.. نحن مدينون لأمنا عائشة في تعريفنا بذلك الجانب البشري في شخصية الرسول الكريم، الزوج المحب العطوف، الرجل الذي يحب ويدلل زوجته.
صفات عائشة:
لايعرف على التحديد في أي سنة ولدت عائشة رضي الله عنها، وهو شيء لا غرابةفيه بين قوم لم يتعودوا تسجيل المواليد.. ربما قاربت الرابعة عشرة حينتزوجها النبي، ويؤيد هذا الترجيح أنها كانت مخطوبة قبل خطبتها إلى النبي.وعلى الرغم من مكانتها في بيت أبيها فلم تشعر بوحشة الانتقال إلى بيتالنبي، لأن عطفه كان العطف الغامر الذي لا يلجأ إلى عطف سواه.. تركها علىسجيتها تلعب بالعرائس مع صواحبها الصغار، ويتعهدها بما يسرها إلى الحدالذي يعجب منه الصحابة.. عطف لا نظير له بين الأزواج، أغدق عليها حنانأبوته؛ فكانت عنده طفلة تنعم بالتدليل وتسعده بالطرافة والجمال، وعرف الكلمكانتها لديه فكان صلى الله عليه وسلم يعدل بينها وبين زميلاتها فيما يملكالعدل فيه، ويستغفر ربه لميل قلبه قائلا: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلاتؤاخذني فيما تملك ولا أملك".
بيضاء أقرب إلى الطول، نحيلة في صباهاقبل أن تمتلئ مع السنين، موفورة النشاط، تمثل المرأة في تكوينها الأصيلالذي خلقه الله منذ خلق حواء، تتمثل فيها الأنثى الخالدة في غيرتها وفيدلالها على زوجها وفي كل ما عرفت به الأنثى من حب التدليل والتصغيروالمناوشة، ومكاتمة الشعور والتعريض بالقول، وهي قادرة على التصريح،فاشتهرت بغيرتها من السيدة خديجة لشدة حب الرسول لها ووفائه لذكراها،وربما غارت من زوجات الرسول لطعام يستطيبه النبي أو لجمال اشتهرن به، بليبلغ بها الأمر أن تكسر إناء الطعام الذي قدمته السيدة صفية المشتهرةبجودة الطهي، ثم ندمت فسألت الرسول عن كفارته فقال: إناء مثل إناء وطعاممثل طعام. وكان غضب الرسول من غيرتها تأديبا وتهذيبا لا سخطا وتأنيبا..يعذرها فيما يمسه ولا يسكت عن مؤاخذتها حينما تمس آخرين، عابت أمامهالسيدة صفية لأنها قصيرة، فكره حديثها وقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماءالبحر لمزجته.
حواء وأم المؤمنين:
تتدللعلى زوجها وهي أشوق ما تكون إلى المصالحة، فحينما هجر الرسول نساءه شهرابعد إلحافهن بالنفقة وانقضت الأيام بدأ بالسيدة عائشة فدخل عليها وهي أشوقما تكون للقائه ولكن لا بد لها من الدلال عند الزوج المحبوب، قالت له: لقدأقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وقد مضى تسعة وعشرون يوما فتبسم الرسول وقالإن الشهر تسعة وعشرون.
وإذا عرضت مناسبة للسن فليس أحب إليهاإلا أن تقول: وكنت جارية صغيرة السن، أو حدث هذا لجهلي وصغر سني.. وربماراق لها أن تختار من الروايات التي ذكروها عن سنها أقربها إلى التصغيروأولاها أن تميز بين زميلاتها بميزة الشباب.
وقد رآها الصديق في بيتها معجبة بثيابهافنهاها عن ذلك قائلا: أما علمت أن العبد إذا دخله العجب بزينة الدنيا مقتهربه حتى يفارقها، فنزعته وتصدقت به. وهي (عائشة) كاملة في هذه القصةالصغيرة، حواء التي تحب أن تنظر إلى زينتها، وهي أيضا أم المؤمنين التيتحب أن ينظر الله إليها، وتطمح إلى زينة أعلى وأغلى.
حبها كان العروة الوثقى في قلب محمد كماوصفه، وكانت تسأله في دلال عن حال العروة فيجيبها: على عهدها لا تتغير ياعائشة، ولم يكن في أحاديث زوجات النبي ما في أحاديثها من الإحساس بالقربوالنفاذ إلى الطوية، وليست المسألة هنا كثرة أو قلة الأحاديث، بل هيالقدرة على الاستيحاء واتصال النفسين ببداهة المرأة وبداهة الحب الأنثوي،تحضره إذا بايع النساء أو جلس إليهن؛ فيوكلها بالتفسير والإسهاب حينمايعرض عن الجواب حياء -صلى الله عليه وسلم- وكانت فطنة لسرائر النبي، نافذةإلى معانيه وسريرته، تحبه حب المسلمة لنبيها، وحب الزوجة لزوجها، تعجببجماله كما تعجب بأدبه وعظم قدره، تغار عليه أشد غيرة عرفتها امرأة علىزوجها، وتتحلى بما يروقه من مرآها، وتعطي بنات حواء درسا لا ينسى حين تقوللامرأة: إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعي مقلتيك فتصنعيهما أحسن مما همافافعلي.
حياة حافلة:
توفيالنبي في بيتها ودفن في المكان الذي كان ينام فيه، وما برحت منذ تلكاللحظة تلازم البقعة الخالدة متخذة سكنها في الغرفة المجاورة، ومنذ ذلكالحين لم تكن حياتها فارغة، بل عاشت تعلم الناس ما حفظته من السننوالأحاديث حتى صارت المرجع الأول في تلقين الأحاديث وجواب السائلين، وكانتكريمة في النجدة تتصدق بسبعين ألفا وإنها لترقع ثوبها، ذكية متوقدة فيذكائها صاحبة بديهة واعية حافظة للشعر، روت وحدها أكثر من ألفي حديث عنالنبي في الأحكام الشرعية والعظات الخلقية والآداب النفسية، تحفظ وتفقهوتفسر على وعي بالكلمات والمعاني، تحفظ الأنساب وتعرف تواريخ الأمم، عليمةبطب زمانها، استحقت مكانتها الرفيعة لنشأتها وزواجها كما استحقتها أيضابما تميزت به بين أترابها من جمال وفهم ومعرفة وبيان.