لسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمرـ رحمه الله تعالى ـ بعد أن ذكر نوعين من أنواع التقليد :
النوع الثالث: التقليد السائغ، وهو: تقليد أهل العلم عند العجز عن معرفة الدليل، وأهل هذا النوع، نوعان أيضاً: أحدهما: من كان من العوام الذين لا معرفة لهم بالفقه والحديث، ولا ينظرون في كلام العلماء، فهؤلاء: لهم التقليد بغير خلاف، بل حكى غير واحد: إجماع العلماء على ذلك.
النوع الثاني: منكان محصلاً لبعض العلوم، وقد تفقه في مذهب من المذاهب، وتبصر في كتبمتأخري الأصحاب كالإقناع والمنتهى، في مذهب الحنابلة، أو المنهاج ونحوه فيمذهب الشافعية أو مختصر خليل ونحوه في مذهب المالكية أو الكنْز ونحوه فيمذهب الحنفية، ولكنه قاصر النظر عن معرفة الدليل، ومعرفة الراجح من كلامالعلماء، فهذا له التقليد أيضاً، إذ لا يجب عليه إلا ما يقدر عليه و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [سورة البقرة آية: 286].ونصوص العلماء على جواز التقليد لمثل هذا كثيرة مشهورة، وذلك لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال "ولم تزل العامة في زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم يستفتون العلماء،ويتبعونهم في الأحكام الشرعية، والعلماء يبادرون إلى إجابة سؤالهم، من غيرإشارة إلى ذكر الدليل، ولا ينهونهم عن ذلك من غير نكير، فكان إجماعاً علىجواز اتباع العامي العلماء المجتهدين.
ويلزم هذا العامي: أن يقلد الأعلم عنده، كما يلزمه في مسألة القبلة، فإذااجتهد مجتهدان عند اشتباه القبلة، فاختلفا في الجهة، اتبع المقلد أوثقهماعنده، ولا يجوز له أن يتبع الرخص، بل يحرم ذلك عليه، ويفسق به، قال ابنعبد البر: لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعاً، ولا يلزم العامي أن يتمذهببمذهب يأخذ بعزائمه ورخصه، قال الشيخ تقي الدين: في الأخذ برخص المذهبوعزائمه، طاعة لغير النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمره ونهيه، وهو خلافالإجماع؛ وتوقف أيضاً في جوازه.
وبالجملة: فالعامي الذي ليس له من العلم حظ ولا نصيب، فَرْضُه التقليد؛فإذا وقعت له حادثة، استفتى من عرفه عالماً عدلاً، أو رآه منتصباً للإفتاءوالتدريس، واعتبر الشيخ تقي الدين، وابن الصلاح بأنه أهل للفتيا، ورجحهالنووي في الروضة، ونقله عن أصحابه.
وقال الشيخ تقي الدين: لا يجوز أن يستفتي إلا من يفتي بعلم وعدل، فعلى هذالا يكتفى بمجرد انتسابه إلى العلم، ولو بمنصب تدريس أو غيره، لا سيما فيهذا الزمان، الذي غلب فيه الجهل، وقل فيه طلب العلم،وتصدى فيه جهلة الطلبةللقضاء والفتيا، فتجد بعضهم يقضي ويفتي، وهو لا يحسن عبارة الكتاب، ولايعلم صورة المسألة، بل لو طولب بإحضار تلك المسألة، وهي في الكتاب، لميهتد إلى موضعها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
لقد هزلتْ حتى بدا من هزالها كلاها*** وحتى استامها كل مفلسِ
قال في شرح مختصر التحرير: ويلزم ولي الأمر منع من لم يعرف بعلم، أو جهلحاله، من الفتيا، قال ربيعة: بعض من يفتي أحق بالضرب من السراق، ولا تصحالفتيا من مستور الحال، وما يجيب به المقلد من حكم، فإخبار عن مذهب إمامه،لا فتيا، قاله أبو الخطاب، وابن عقيل، والموفق، ويعمل بخبره إن كان عدلاً،لأنه ناقل كالراوي.
ولعامي تقليد مفضول من المجتهدين، عند الأكثر من أصحابنا، منهم القاضي،وأبو الخطاب، وصاحب الروضة، وقاله الحنفية، والمالكية، وأكثر الشافعية،وقيل: يصح إن اعتقده فاضلاً، أو مساوياً، لا إن اعتقده مفضولاً، لأنه ليسمن القواعد أن يعدل عن الراجح إلى المرجوح. وقال ابن عقيل، وابن سريج،والقفال، والسمعاني: يلزمه الاجتهاد، فيقدم الأرجح، ومعناه: قول الخرقي،والموفق في المقنع، ولأحمد: روايتان.
ويلزمه إن بان له الأرجح تقليده في الأصح، زاد بعض أصحابنا وبعض الشافعية:في الأظهر، ويقدم الأعلم على الأورع، ويخير في تقليد أحد مستورين عند أكثرأصحابنا، قال في الرعاية: ولا يكفيه من تسكن نفسه إليه، بل لا بد من سكونالنفس والطمأنينة به، ويحرم عليه تتبع الرخص، ويفسق به.
وإن اختلف مجتهدان بأن أفتاه أحدهما بحكم، والآخر بخلافه، يخير في الأخذبأيهما شاء، على الصحيح؛ اختاره القاضي، والمجد، وأبو الخطاب، وذكر أنهظاهر كلام أحمد، وقيل: يأخذ بقول الأفضل منهما علماً وديناً، وهذا اختيارالموفق في الروضة.
ويحرم تساهل مفت، وتقليد معروف به، لأن الفتيا أمر خطر، فينبغي أن يتبعالسلف الصالح في ذلك، فقد كانوا يهابون الفتيا كثيراً؛ وقد قال الإمامأحمد رضي الله عنه: إذا هاب الرجل شيئاً لا ينبغي أن يحمل على أن يقول به.
قال بعض الشافعية: من اكتفى في فتياه بقول أو وجه في المسألة، من غير نظرفي الترجيح، فقد جهل وخرق الإجماع، وذكر عن أبي الوليد الباجي أنه ذكر عنبعض أصحابهم، أنه كان يقول: الذي لصديقي علي أن أفتيه بالرواية التيتوافقه، قال أبو الوليد: وهذا لا يجوز عند أحد يعتد به في الإجماع. انتهىكلامه في شرح المختصر ملخصاً.
الدرر السنية /القسم الأول من كتاب العبادات / صـ 33 ـ 37