"الانحيــــاز"
[حفلُ توقيعِ سدانةِ الحسنِ في دفترِ الضوء]
ما احتاجَ وعدُكَ لي سِرَّاً لمن شَهِدَا
فالحرُّ عبدٌ لوعدٍ كانَ قد وَعَدا
لمّا همستَ بثغري بِكْرَ فاكهةٍ
من الكلامِ، بدتْ أنفاسُها ... زُبَدَا
وسالَ بينَ شفاهي رشحُ " منطقِها"
فبلَّ قلبيَ ريقاً جفَّ ... وازدَردَا
واسَّاقطتْ في أباريقي .. "بلاغتُها"
فَرُحْتُ أسكبُني رِيّاً لكلِّ "صَدَى"
لقَّنتني يومَها "عَقداً" مشافهةً
وقلتَ: وَقِّعْ على وردٍ بماءِ ندى
***
وَقَّعتُ يشهدُ سَروٌ في حديقتِنا
وفي خزانتِهِ قد خبَّأَ السَّنَدَا
وسجَّلَ الجلسةَ الصفصافُ عن كَثَبٍ
بدفترِ الضوءِ عند الفجرِ ... واعتَمَدَا
لا يحنَثُ السروُ والصفصافُ لو حَلفَا
بأنّ جسميْ بتلكَ اللحظةِ ... ارتعَدَا
وهكذا الشِّعرُ عَقْدٌ لا شهودَ له
سوى الجمالِ، وإلاّ عقدُهُ فَسَدَا
***
عاهدتني يومَها في أَنْ تكونَ أنا
أنتَ المغنّي وصوتي إِنْ حكاكَ صَدَى
ورحتَ تعزِفُ في أوتار حَنجرتي
فما عَرَفنا الذي مِنّا هناكَ شَدَا
غَنَّيتَ َرَصداً" وكانَ الناسُ قد فَهموا
فنَّ المقامِ ... فقالوا: آهِ لو رَصَدا
ورحتَ تفتحُ شبّاكاً بآهتهمْ
على يَمَامٍ.. بأفْقٍ شاسعٍ ومَدَى
نفختَ من نشوةِ الإبداعِ روحَ شجىً
على الروابي، فقامتْ واستوتْ جَسَدَا
فوَّجتَ نحو صعيدِ الغيمِ فِتنتََهُ
فجاءَ تدفعُهُ الأوهامُ واحتَشَدَا
وسالَ منه لعابٌ فاكتسى خَجَلاً
منه الجبينُ ومن إغضائِهِ ... رَعَدا
***
فجَّرْتَ في كُتُبِ الغاباتِ أنهرَها
هذا الفراتُ وهذا النيلُ أو بردى
وكنتَ تكتبُ في أوراقِ موجتِها
وَشْياً عليه ضميرُ الماء قد سَجَدا
***
قَصَّبتَ ريشَ حروفِ القمحِ فائتقلتْ
وَلَوَّنتْ ذهباً كفَّ الذي حَصَدا
رَبَّتَ فوق ظهورِ الفُلِّ فاختَلَجَتْ
منه المفاصلُ وابتُلَّتْ بما فَصَدا
ورُحتَ تلأمُ وَدْقَ العطرِ ... تنظُمهُ
شِعراً تأنَّقَ عِقداً لُحْمةً وسَدى
مُرتِّباً أُفُقَ الأزهارِ في نَسَقٍ
إن غابَ أُفْقٌ تثنَّى غيرُهُ وَبَدا
مُرَوِّضاً نَزواتِ الوردِ تفركُهُ
من مسمعيهِ ... إذا ما بوحُهُ عَنَدا
***
أَعدَدْتَ للقمرِ الفضيِّ مُتَّكَأً
فجاءَ ... فوقَ سريرِ السَّطرِ واستنَدَا
وقلتَ للقلمِ الفنَانِ ... مُرَّ بهِ
فقطَّع القمرُ المفتونُ فيه ... يدَا
كذاك وانسكبتْ في الطِّرْسِ فضَّتُهُ
فحصحصَ الحسنُ في خديّكَ ... منفرِدَا
حَملتَ بيرقَهُ تتلو المعوذتيـ
ـنِ نافخاً بهما ... وجهَ الذي حَسَدا
وقامَ برقٌ يحكُّ الجفنَ مندَهِشاً
مما فعلتَ وحتى اليوم ... ما قَعَدا
وراحَ يقطرُ عينيه بقافيةٍ
من ماءِ شِعركَ حتى يُذْهِبَ الرَّمَدا
***
وأوَّلوكَ ... فهذا راحَ مقترِباً
من اللِّحاءِ وهذا راحَ مبتعِدا
ولا غرورٌ، وحاشا شامتيكَ أنا
عرفتُ قلبكَ في الأضواءِ قد زَهِدا
لكنه الحُسْنُ سهواً قد وقعتَ به
وما عَمَدتَ إلى الإغواءِ بلْ عَمَدا
واستحوذتكَ معانيهِ فكنتَ له
على القريحةِ ... طيراً صادِحاً غَرِدا
***
واليومَ لما رأيتَ الظلمَ مفترِساً
لحمَ الرضيعِ وحلمَ الأمِّ ضاعَ سُدى
غَضَضْتَ طرفَكَ قلتَ: الشعرُ صنعتُهُ
رصدُ الجَمَالِ، لهذا بيننا ... وُجَِدا
***
يا سادنَ الحُسْنِ إنّ العدلَ جوهرُه
حُسْنٌ... وكلُّ جمالٍ غيرُه نَفَدا
الحسنُ والعدلُ نهرا كلِّ أغنيةٍ
وبالجمالِ بحورَ الشعرِ ... قد رَفَدا
يا سادنَ الحُسْنِ إنَّ الشِّعرَ نفثَتَهُ
في أن يكونَ على الظُّلامِ ... ألفَ رَدَى
وأن يكونَ مع المظلومِ حربتَهُ
ووهجُهُ الحرُّ في قلبِ الطغاةِ مُدَى
وأنْ يُضيءَ كقِنديلٍ لمضَّطهَدٍ
حتى ولو صارَ باسم النورِ مُضَّطَهَدا
***
يا سادنَ الحُسْنِ إني قد نَذَرْتُ دمي
على دروبِ جميعِ المتعبين.. فِدى
غَنَّيتُ فرحتَهمْ، أَجَّجْتُ ثورتَهمْ
والظلُّ والشمسُ في أوداجيَ ... اتَّحدا
وأنتَ ... واعدتَني في أن تكونَ أنا
يا أيها الحرُّ... أَنجِزْ ما وعدتَ... غَدَا
****
الشاعر محمد نجيب المراد