ابو حنيفة وابو يوسف
وكان أبو حنيفة يتعهد تلاميذه بالرعاية، وينفق على بعضهم من ماله، مثلما
فعل مع تلميذه أبي يوسف حين تكفّله بالعيش لما رأى ضرورات الحياة تصرفه عن
طلب العلم، وأمده بماله حتى يفرغ تماما للدراسة، يقول أبو يوسف المتوفى
سنة (182هـ = 797م): "وكان يعولني وعيالي عشرين سنة، وإذا قلت له: ما رأيت
أجود منك، يقول: كيف لو رأيت حمادا –يقصد شيخه- ما رأيت أجمع للخصال
المحمودة منه".
مرض أبو يوسف مرضًا شديدًا، فعاده أستاذه أبو حنيفة مرارًا. فلما صار إليه
آخر مرة، رآه ثقيلاً، فاسترجع، ثم قال: لقد كنتُ أُؤَمّله بعدي للمسلمين،
ولئن أُصيبَ الناسُ به ليموتَنّ علمٌ كثير. ثم رُزق أبو يوسف العافية،
وخرج من العِلَّة. فلما أُخبِر بقول أبي حنيفة فيه، ارتفعت نفسُه، وانصرفت
وجوه الناس إليه، فعقد لنفسه مجلسـًا في الفقه، وقصـَّر عن لُزوم مجلس أبي
حنيفة. وسأل أبو حنيفة عنه فأُخبر أنه عقد لنفسه مجلسًا بعد أن بلغه
كلام أستاذه فيه. فقال أبو حنيفة آبى أبو يوسف إلا أن نقشر له العصا ,,
فدعا أبو حنيفة رجلاً وقال له: صـِرْ إلى مجلس أبي يوسف، فقل له: ما
تقول في رجل دفع إلى قَصَّار ثوبًا ليصبغه بدرهم، فصار إليه بعد أيام في
طلب الثوب، فقال له القصار: ما لك عندي شيء، وأنكره. ثم إن صاحب الثوب رجع
إليه، فدفع إليه الثوب مصبوغًا، أَلَه أجرُه؟ فإن قال أبو يوسف: له أجره،
فقل له: أخطأت. وإن قال: لا أجرَ له فقل له: أخطأت! فصار الرجل إلى
أبي يوسف وسأله، فقال أبو يوسف: له الأجرة. قال الرجل: أخطأت.
ففكر ساعة، ثم قال: لا أجرة له. فقال له: أخطأت! فقام أبو
يوسف من ساعته، فأتى أبا حنيفة. فقال له: ما جاء بك إلا مسألةُ
القصَّار. قال: أجل. فقال أبو حنيفة: سبحان اللّه! من قعد
يُفتي الناس، وعقد مجلسًا يتكلم في دين اللّه، لا يُحسن أن يجيب في مسألة
من الإجارات؟! فقال: يا أبا حنيفة، علِّمني. فقال: إنْ
صبغه القصار بعدما غَصَبه فلا أجرة له، لأنه صبغ لنفسه، وإن كان صبغه قبل
أن يغصبه، فله الأجرة، لأنه صبغه لصاحبه. ثم قال: مَن ظن أن يستغني عن
التعلُّم فَلْيَبكِ على نفسه ....
منقوول للفائدة