المسجد الأقصى
تجاوز الكثيرون ممن ناقشوا قضية المسجد الأقصى وحقيقته في الوعي الإسلامي، مرحلة طويلة من التعاطي الروحي مع هذا المسجد. فمنهم من يبدأ كلامه على المسجد الأقصى ومكانته لدى المسلمين من مرحلة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أو حتى مرحلة الحروب الصليبية وجهاد المسلمين تحت إمرة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.
بل حتى الذين يتكلمون عن حادثة الإسراء والمعراج، وأثرها في قدسية المسجد الأقصى المبارك؛ فإنهم يقرؤونها في سياق الفهم المعاصر، بمنأى عن فهم القرآن، كما لو كان يتنزل اليوم على تلك الثلة المؤمنة ممن كانوا حول النبي صلى الله عليه وسلم.
وللإسهام في رسم اللوحة الروحية للمسجد الأقصى المبارك في الوعي المسلم، لا سيما لدى العصبة الأولى ممن كان حول النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنني أناقش المرحلة المكية وعلاقتها ببيت المقدس.
الوعي الجمعي للأمة
شكل المسجدُ الأقصى المبارك علامة فارقة ومحطة متميزة في تشكيل وعي الأمة الجمعي، بل في قولبة الكثير من المعاني الحضارية والتعبوية لديها. فمنذ فجر الإسلام الأول نلحظ القرآن الكريم وهو يرمي بأبصار المسلمين إلى هذه البقعة الملتهبة من الأرض (أرض بيت المقدس).
فإن غَلبة الروم- في أدنى الأرض- لم تمر مرورا اعتباطيا في وعي الأمة ومكنونات حسها الروحي. إن القرآن الكريم سكب في وعي الجماعة الأولى - من غير تكلف في شرح الفكرة- أن هذه المنطقة ترتبط بكم شعوريا، ووجدانيا، بل حسيا، ويتجلى الأخير بقوله: (فِي أَدْنَى الأَرْضِ...) [الروم:3].
إن الجماعة المؤمنة الأولى كانت على وعي تام بمُسَلمات العلاقة بين ما يحملونه من أفكار ترتقي بهم إلى العوالم العلوية فيستطيبون -في سبيلها- العنت والأذى، وبين (أدنى الأرض)، فإن الذائقة العربية والحس الإيماني المتدفق لدى الرعيل الأول أيقظهم إلى حقيقة مفادها أن بيت المقدس حلقة لا بد منها ضمن سلسلة حلقات الإعداد والبناء الإيماني الذي يختطه لهم القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم.
لقد شكل المسجد الأقصى بُعدا جماليا وروحيا لدى هذه العصابة منذ بدايات تشكلها، ومنذ اللحظات الأولى التي كانت بذور الحالة العرفانية والمسحة النورانية، تتقولب في قلوب الجماعة، كان الأقصى حاضرا في أذهانهم.
وإلا فما معنى أن تتم حادثة الإسراء والمعراج في الفترة المكية -باتفاق أهل العلم- على خلافٍ بينهم في تحديد الوقت الذي وقعت فيه الحادثة، فمنهم من يرى أن ذلك كان في بداية الدعوة، ويرى آخرون أن ذلك كان في السنة العاشرة، وذهب جمهورهم إلى أن ذلك كان قُبيل الهجرة أي 16 شهرا تقريبا قبل الهجرة.
لِنُحْسِن التعامل مع القرآن
إننا كي نحسن التعامل مع القرآن، مطالبون بأن نتلقى آياته كما لو أنها تتنزل علينا، فنعيشها في حرها ونبضها ووهجها الذي أعْمل في قلوب الصحابة فأفعل. وعليه، فللواحد منا أن يتساءل عن أثر آيات الإسراء تتنزل على مجتمع الصحابة في مرحلة الاستضعاف، بل في القمة الهرمية للحالة الاستضعافية التي عاشتها العُصبة المؤمنة في تاريخ صراعها من أجل التأسيس لدولة الله تعالى في الأرض.
فقد ذكرت كتب السير أن حادثة الإسراء والمعراج جاءت بعدما لاقى النبي صلى الله عليه وسلمما لاقى من عنت وأذى لا سيما بعد وفاة عمه أبي طالب وزوجه وأُمنا خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها.
لو أننا حاولنا أن نُعايش تنزل القرآن لاستبطان أثره في الجماعة المؤمنة الأولى؛ لنتج عندنا جماعة مؤمنة تجترع الأسى وتمضي على جمر اللظى، ولكنها مستعصمة بحبل عقيدة وكلمات إلهية قد آمنت بالإعجاز المطلق فيها.
إن هذه العصابة المؤمنة التي كانت تتشوف لكل آية تتنزل تشوف الطفل للمسة أمه أو الراكب في وهج الصحراء وحرها لظل سمُرة. كانوا كلما تنزلت عليهم آيات من الكتاب أقبلوا عليها يقرؤونها ببصائرهم وحقائق أفئدتهم قبل أن يتلقوها بعيونهم وحقائق عقولهم، كانوا يسمعون -فقرًا وشوقًا- ليمتثلوا، وما كانوا يستمعون بطرا وكِبرا، ولا شبَعا وأشرا، ليمتنعوا. فمثل هذه العُصبة المؤمنة تتنزل عليها آيات تبين أن المولى تعالى جده قد أسرى بنبيه - صلى الله عليه وسلم-ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
المسجد الأقصى.. ما حقيقة المسجد الأقصى وما طبيعته؟!وما هي مكانته عند الله حتى يرتل في القرآن منذ هذه الفترة المبكرة من عُمر الجماعة الأولى المؤمنة؟ نعم، كانت العرب تعرف بيت المقدس، ولكن القرآن الكريم ينادي بيت المقدس الآن باسم (المسجد الأقصى).
الأقصى وحادثة الإسراء
فإن المتابع للسياق القرآني المتعلق بحادثة الإسراء، يرى أن القرآن يركز على المسجد الأقصى، وأما كتب الحديث والسيَر؛ فإنها تحدثنا عن إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم-العرب أنه أُسري به ليلا إلى بيت المقدس، وأن العرب قد ناقشوه في هذا الأمر قائلين: "إننا نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس 6 شهور".
هذا يدل على أن حقيقة جديدة تشكلت في وعي الجماعة المؤمنة، فإن ذات الأرض التي حدثهم عنها القرآنُ أنها ستكون لأهل الكتاب بعد بضع سنين، ها هي تكون للنبي صلى الله عليه وسلم، بل يحوزوها أو قل: يزورها النبي- صلى الله عليه وسلم-قبل أن تتحقق المعجزة القرآنية.
ألا يدل ذلك كله على أن وعي هذه الجماعة قد ارتبط مع هذه الأرض ارتباطاً لا يمكن أبدا إلا أن يضفي مسحة جمالية وهمة عالية إلى الوعي الإسلامي. تعال معي لنصغي إلى المعلم الأول - صلى الله عليه وسلم- وهو يروي لهذا المجتمع - في تلك المرحلة المبكرة- ما ينقلهم نقلة جغرافية وأخرى روحية وعقدية من مكة المكرمة إلى شقيقتها بيت المقدس.
يروي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-عن حادثة الإسراء يقول: "أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه. قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس. قال: فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء. قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن. فقال جبريل عليه السلام: اخترت الفطرة".
ألا يهولك هذا النص؟! ألا تتفق معي أنه يأخذ بمجامع القلوب والأفئدة، ويأخذ بالبصائر والعقول؟! ما بال النبي- صلى الله عليه وسلم-يحدث الصحابة رضي الله عنهم عن هذا المسجد، كما لو أنهم يعاينونه ويرونه.. نعم لم يكونوا يعاينونه، ولكنه أراد لهم أن تتشوف نفوسهم إلى رؤيته، فيعاينوه ببصرهم بعد أن عاينته بصائرهم. ويريد لهم أن يتعايشوا مع هذا المسجد حتى أدق تفصيلاته، ويربط أفهامهم وأذهانهم بكل حجر من حجارة هذا المسجد، وبكل شبر من مساحته.
ألا تتفق معي أن سماع هذه العصبة المؤمنةُ عن مسجدٍ يمكنهم أن يزوروه وأن يصلوا فيه من غير أن يجدوا فيه أصناما وصدا -كما هو الحال في الكعبة- قد أغرى بهم أن يعملوا جاهدين على أن يأتوا هذا المسجد للصلاة وللعبادة فيه.
"ثقافة بيت المقدس"
مسجد قبة الصخرة
إن هذا التصور الذي تعكسه الملابسات التاريخية - من جهة- وحسن فهم آيات القرآن بالاقتران بوقت التنزيل - من جهة أخرى- تجعلنا نجزم بأن "ثقافة بيت المقدس" أو "البعد الروحي لقضية بيت المقدس" كان حاضرا في أذهان النواة الأولى لهذا الدين.
وكي ندعم هذه القراءة بشاهد من الواقع التاريخي، فإننا نجدُ أن كتبَ الحديث تخبرنا عن عبد الله بن الأرقم عن جده الأرقم -وكان بدريا- قال: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم آوى في داره ثم الصفا حتى تكاملوا أربعين رجلا مسلمين، وكان آخرهم إسلاما عمر بن الخطاب رضي الله عنهم. فلما كانوا أربعين خرجوا إلى المشركين.
قال الأرقم: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأودعه، وأردت الخروج إلى بيت المقدس، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين تريد؟ قلت: بيت المقدس. قال: وما يخرجك إليه؟ أفي تجارة؟ قلت: لا، ولكن أصلي فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة ها هنا خير من ألف صلاة ثَمّ".
إن هذا الحديث لا يدل على الأجر الحقيقي للصلاة في بيت المقدس، فإن من صلى في بيت المقدس خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه [الحديث أخرجه: الحاكم، المستدرك (3/576، حديث رقم، 6130، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) والطبراني، المعجم الكبير،(1/306، حديث رقم 907)].
أراد الإسلام والقرآن للمسجد الأقصى المبارك أن يكون مرتبطا ارتباطا روحيا وعقديا مع حياة هذه العصبة منذ اللحظات الأولى حتى آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم، ألا تتذكر معي أن الجماعة المؤمنة الأولى كانت تصلي مستقبلة بيت المقدس، أي كانت أرواحهم وقلوبهم تحلق روحانيا إلى تلك الأرض المباركة التي قال فيها ابن عباس رضي الله عنهما، إن سبب تسميتها ببيت المقدس أنه ما من نبي إلا وقد زارها.
وبذلك يتضح أن الحركة الإسلامية المعاصرة مطالبة بإدراج البعد الروحي للمسجد الأقصى في حياة المسلمين كأحد المسارات التي تمتد بشكل أفقي مع سائر المعاني الإيمانية والروحية، فإن مما تعاني منه الأدبيات الحركية المعاصرة أنها باتت تنظرُ إلى موضوع المسجد الأقصى كما لو أنه كان مركبا وطنيا أو حتى قوميا/إقليميا بمنأى عن تداعياته الروحية التي حضرت واستقرت في أذهان الجيل الأول من رعيل الأمة الذي تشرب حبه والشوق إليه.