مناظرة جميلة
قال الزجاجي في مجالس العلماء ص220 :
حدثنا أبو عبد الله اليزيدي قال أخبرني عمي الفضل بن محمد عن أبي محمد
الفضل بن المبارك اليزيدي قال: كنا ببلد مع المهدي في شهر رمضان قبل أن
يستخلف بأربعة أشهر ، فتذاكروا ليلة عنده النحو والعريبة وكان متصلا بخاله
يزيد بن المنصور ، والكسائي مع الحسن الحاجب ، فبعث إليّ ، وإلى الكسائي
فصرت إلى الدار ، وإذا الكسائي بالباب قد سبقني ، فقال: أعوذ بالله من
شرّك يا أبا محمد .
فقلت: والله لا تؤتى من قبلي أو أوتى من قبلك.
فلما دخلنا على المهدي أقبل عليّ ، وقال: كيف نسبوا إلى البحرين ، فقالوا: بَحْرانيّ ، ونسبوا إلى الحصنين ، فقالوا : حِصنيّ ؟
فقلت أيها الأمير ، لو قالوا في النسب إلى البحرين بحريّ لالتبس فلم يدر: النسبة
إلى البحرين وقعت أم إلى البحر ، فزادوا ألفا ونونا للفرق بينهما ، كما قالوا في النسب إلى الروح روحاني.
ولم يكن للحصنين شيء يلتبس به فقالوا : حصني على القياس.
فسمعت الكسائي يقول لعمر بن بزيع : لو سألني الأمير لأجبته بأحسن من هذه
العلة . فقلت: أصلح الله الأمير إن هذا يزعم أنك لو سألته لأجاب بأحسن من
جوابي.
فقال: قد سألته .
فقال : أصلح الله الأمير ، كرهوا أن يقولوا حصناني فيجمعوا بين نونين ، ولم يكن في البحرين إلا نون واحدة ، فقالوا: بحراني لذلك.
فقلت: فكيف تنسب رجلا من بني جِنَّان ؟ إن لزمت قياسك قلتَ: جنيّ ، فجمعت
بينه وبين المنسوب إلى الجن ، وإن قلتَ: جِنَّانيٌّ رجعت عن قياسك ،وجمعت
بين ثلاث نونات .
ثم تفاوضنا الكلام إلى أن قلت له: كيف تقول: إنّ من خير القوم ، وأفضلهم ، أو خيرُهم بتةً زيدٌ ؟
فأطرق مفكرا ، و أطال الفكر ، فقلت : أصلح الله الأمير لأن يجيب فيخطئ فيتعلم أحسن من هذه الإطالة .
فقال: إنّ من خير القوم ، وأفضلهم ، أو خيرُهم بتةً زيداً.
فقلت له: أخطأت.
قال: كيف؟
قلت: لرفعه خيرُهم قبل أن يأتي باسم إنّ ، ونصبه زيدا بعد الرفع ، وهذا لا يجيزه أحد.
فقال شيبة بن الوليد عمّ دفافة متعصبا له : أراد بأو: بل . فقلت هذا المعنى لعمري معنى.
فلقنه الكسائي فقال : ما أردت غيره .
فقلت: أخطأتما جميعا ، لأنه غير جائز إنّ من خير القوم ، وأفضلهم ، بل خيرُهم زيداً.
فقال المهدي للكسائي:ما مر بك مثل اليوم .
قال: فكيف الصواب عندك ؟
إنّ من خير القوم ، وأفضلهم ، أو خيرَهم بتةً زيدٌ. على معنى تكرير إن .
قال المهدي قد اختلفتما ،وأنتما عالمان فمن يفصل بينكما ؟
قلت: فصحاء العرب المطبوعون .
فبعث إلى أبي المطوق ، فعملت له أبيات إلى أن يجيء ، وكان المهدي يميل إلى أخواله في اليمن فقلت:
حِمْيرُ سادتُها تُقر لها * بالفضل طرّاً جحاجح العرب
وإنَّ من خيرهم وأفضلِهمْ * أو خيرَهم بتةً أبو كرب
يا أيها السائلي لأُخبره * عمن بصنعاءَ من ذوي الحسبِ
فلما جاء أبو المطوق أنشدته الأبيات ، وسألته المسألة فوافقني ، فلما خرجنا تهددني شيبة ، وقال : تلحنني بحضرة الأمير ؟!
فانشدته:
عِش بِجَدٍّ ولا يضرُّك نَوك ... إنما عَيش من تَرى بالجُدودِ
عِش بِجَدّ وكن هَبنّقة القيـ ...سيّ نَوكاً أو شيبَة بنَ الوليد
شيبَ يا شيبَ يا هُنَيَّ بني القعْـ ... قاع ما أنت بالحليم الرشيد
لا ولا فيك خَصلةٌ من خصال الـ ... خير أحرزْتها لحزم وجود
غيرَ ما أنك المجيد لتحبيـ ... ير غناءٍ لضرب دُفّ وعود
فعلَى ذا وذاك نحتمِل الدهـ ... ـر مجيداً به وغير مجيد
المسألأة مبنية على الفساد للمغالطة .
فأما جواب الكسائي فغير مرضي عند أحد ، وجواب اليزيدي أيضا غير جائز عندنا
؛ لأنه اضمر إن وعملها ، وليس من قوتها أن تضمر فتعمل ، فأما تكريرها
فجائز ، قد جاء في القرآن والفصيح .
قال الله جل و عز {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ
اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فجعل إن الثانية مع
اسمها وخبرها خبرا عن الأولى ، وقال الشاعر :
إن الخليفة إن الله سربله * سربال ملك به تزجى الخواتيم
والصواب عندنا في المسألة أن يقال: إن من خير القوم وأفضلهم أو خيرُهم البتةَ زيدٌ ، فيضمر اسم فيها ، ويستأنف ما بعدها .
وذكر سيبويه أن البتة مصدر لم تستعمله العرب إلا بالألف واللام ، وأن حذفهما منها خطأ.
علق عليها عبد الرحمان السديس