من علامات المتعالم للشيخ أبي مالك العوضي
قرأْنَا كثيرًا لأهل
العلم كلامَهم في التحذير من التعالُم، وتجنُّب المتعالمِين، ولزوم
الراسخين، ولكنْ قلَّ أنْ تجدَ مَن تكلَّم عن علامات المتعالِم، وكيف يمكن أن يُعرفَ ليُحْذَرَ؟
وهذه العلامات كاسمها علامات؛ قد يصدقُ
بعضها ولا يصدقُ بعضها، لكن بقدر ما يجتمع منها يصدقُ الوصف بالتعالم،
وبقدر ما يُجتنَبُ منها يبعد الوصف بالتعالم، كما أنَّ المرءَ قد يكون فيه
شُعبة من النفاق، إلا أنه ليس منافقًا، وقد يكون فيه شُعبة من الكفر، إلا
أنه ليس كافرًا، فكذلك قد يكون فيه صفة من صفات التعالم، إلا أنه طالب علم
فيه من الخير ما هو أكثر، فيُرجَى له الصلاح والهُدى والرجوع إلى سواء
الصراط بتوفيق الله - تعالى.
وهذه بعض صفات المتعالم ليُحذر:
• أن ينصحَ بكتب وهو لم يقرأها:
لأن هذا من التشبُّع بما لم يعط، ولا أدري كيف يبيح العاقل لنفسه أن ينصحَ بشيءٍ لم يعرفه حقَّ المعرفة، ولم يخبره حقَّ الخبرة؟!
اللهم إلا إنْ كان ناقلاً لكلام أهل العلم، لا مُنشئًا من قِبَل نفسِه،
فحينئذٍ مَن أحالَ فَقَدْ سَلِمَ، ولكن كيف تعرف أنَّ هذا المتعالِم لم
يقرأ هذه الكتب؟ الجواب: معرفة ذلك تظهر من سياق كلامه؛ كأن يصف الكتاب بما
هو بعيد كلَّ البعد عن حقيقته، أو أنْ ينصحَ بكتبٍ تحتاج إلى عشرات السنين
لقراءتها وهو صغير السنِّ جدًّا، أو نحو ذلك.
• أن يوصي بحفظ متون وهو لم يحفظها:
وهذه آفة قريبة من الآفة السابقة، ولكنها
أعجب، واسمَعْ واعْجَبْ لأحد الإخوة ينصح طلبة العلم أن يحفظوا إحدى
المنظومات، ثم يتبيَّن فيما بعد أنَّها متنٌ منثورٌ لا منظومٌ!
• أن يتكلم في مسائل كبيرة تحتاج إلى أعمار لاستقرائها:
فتراه أحيانًا يطلق القولَ في بعض المسائل التي تحتاج عشرات السنين من البحث وهو لم يبلغ الثلاثين بعد!
• أن يهجم بالكلام في مسائل يجبنُ عنها فحول العلماء:
الجبن محمود في العلم، وهذا ما يجهله كثير
من الطلبة، فيحسب لجهله أنَّ الجرأة في الجواب والسرعةَ في الردِّ علامةٌ
من علامات العالم، وما هي عند التحقيق إلا من علامات الجاهل! اللهم إلا أنْ
يكونَ عالمًا مشهودًا له بسَعة الاطلاع جدًّا، وقد سبق منه النظر في هذه
المسألة، فيسرع بالجواب لاستحضاره، وهذا لا يشتبه أصلاً حتى ينظرَ فيه.
• أن يزعم أنه لم يحرِّرْ أحدٌ قبله قطُّ بعضَ مسائل العلم:
كهذا الذي زعم أنَّ أهل العلم منذ عهد
التابعين إلى يومنا هذا لم يفهموا حقيقة السُّنة، ولم يعرفوا معناها
الصحيح! ثم صنَّف كتابًا في نحو ثمانمائة صفحة عن هذا الموضوع، تنطق كل
صفحة فيه بجهالته وضلالته، ولكن هذا النوع إلى الضلال أقرب منه إلى
التعالُم، وإن كان قد يقعُ مثلُ هذا لبعضِ المنسوبين لطلب العلم.
• أن يزعمَ أنَّ أصول بعض العلوم فاسدة، لم يعرفْ فسادَها أحدٌ قبله:
وهذا فوق أنه يحمل في طيَّاته إزراءً
بجميع العلماء السابقين، فهو يحمل اعتدادًا كبيرًا بعقله، وقد قال ابن
المقفَّع: حقٌّ على العاقل أن يجبنَ عن المضي على الرأي الذي لا يجدُ عليه
موافقًا، وإن ظنَّ أنه على اليقين، وإذا وازنَ العاقلُ بين احتمال أنْ
يكونَ الخطأُ في عقل هذا المتأخِّر، وبين أن يكونَ جميعُ العقلاء السابقين
قد أخطؤوا، ظهر له الحقُّ لائحًا جليًّا لا يحتاج لبيانٍ.
وآفة مثل هذا أنه يحسب أن التعارُضَ واقعٌ
بين الدليل وبين أقوال أهل العلم، فيظنُّ أن العِبرة بالدليل ولا عِبرة
بأقوال الرجال، وهذا التصوير للمسألة واضحُ البطلان، والتصوير الصحيح
للمسألة أن التعارضَ واقعٌ بين عقله وفَهْمه هو، وبين عقل جميع العلماء
وفَهْمهم، فهو لجهله يظنُّ أنَّ فَهْمه للدليل يساوي بالمطابقة ثبوت
حُجيَّة هذا الدليل، وهذا هو سبب الخلل الذي نراه كثيرًا عند طلبة العلم
اليوم.
• أن يشهد هو لنفسه دون غيره بالأهلية:
من المعروف أنَّ الإنسان حتى وإنْ رأى
نفسه أهلاً للكلام في مسائل العلم، فإنه لا ينبغي أن يحكمَ على نفسه بذلك؛
بل يتروَّى حتى يشهد له أهلُ العلم بالتأهُّل؛ كما قال الإمام مالك: ما
أفتيتُ حتى شَهِدَ لي سبعون من أهل المدينة، وقال شيخ الشافعي له: أفتِ يا
أبا عبدالله؛ فقد آن لك أن تُفتي، أمَّا أن يشهدَ الإنسان لنفسه
بالأهليَّة، فهذا بعيدٌ كلَّ البُعد عن مَهْيَع الصواب، كما أنه يفتح
البابَ على مصراعيه للجُهَّال، ثم يا أخي الكريم، ما أدراك أنَّك أهل؟ نحن
مَن عِلْم أهلِ العلم على يقين، ومنك على شكٍّ، فإذا كان أهل العلم يشهدون
عليك أنَّك لم تتأهَّل بعد، فهل نَدَعُ يقينَهم لشكِّك؟
• أن يزعم أن اتِّفاق أهل الفنِّ على مسائل فنِّهم باطل:
وهذا أمرٌ مشاهد معروف؛ لأن الجاهل
المتعالِم كثيرًا ما يُجابَه بأن كلامَه مخالف لكلام أهل الفنِّ، فيجد أنَّ
المخلص السريع والسهل من هذا الأمر أن يدَّعي أن اتِّفاقهم ليس بحُجَّة
أصلاً، فيريح نفسه من عناء الردِّ، وقد كتب بعضهم لمَّا ضَاقَ ذرعًا بكثرة
مَن يعترض عليه، كتب في ذلك موضوعًا مضحكًا يزعم فيه أنه لا يشترط أنْ
يكونَ له سلف في كلامه.
• أن يطلقَ التعميمات العريضة المتسرعة:
التي تحتاج إلى عشرات المختصين في كلِّ فنٍّ يعملون لعشرات السنين حتى يخرجوا بها! كمن يزعم أن "الباقِلاَّني" لم يُسبقْ إلى هذا القول في الأصول، وأن "الدارقطني" لم يُسبقْ إلى إنكار هذا الحديث، وأن "الطبري"
لم يُسبقْ إلى هذا القول في التفسير، مع أنَّ هؤلاء العلماء من
المتقدِّمين في فنونِهم، وكثير من الكتب التي سبقتهم فُقِدتْ، هذا فضلاً عن
أنَّ هذه المزاعم لم يقلْها أحدٌ معتبرٌ قطُّ.
• أن يفسرَ الكلام المنسوب إلى أحد فحول العلماء على أنه جهالة عمياء:
كأن يتأوَّل قولاً لأحدِ العلماء بأنه لم
يقفْ على حديث ((إنما الأعمال بالنيَّات))، أو أنه لم يقفْ على خلاف مشهور
جدًّا في المسألة، أو أنه جَهِلَ مسألة من أوضح مسائل العربية، وغير ذلك من
الخبط الذي نراه كثيرًا من المعاصرين، ومن المعلوم أن اتهام الإنسان نفسه
في فَهْم كلام العالم أَوْلى وأَوْلى من أن يتهمَ هذا العالم بأنه لا يفقه
بدهيات المسائل العلمية وأوائلها، لا سيَّما إذا لم يستنكرِ العلماءُ قولَه
قبلك.
• أن يتصدرَ في سنٍّ صغيرة:
قال الشافعي: إذا تصدر الحدثُ، فاته علمٌ
كثير، وقال عمر: تفقَّهوا قبل أن تسودوا؛ أي: إن الإنسان يُشغَلُ بعد
تولِّي المناصب، فلا يتفرَّغ لتحصيل العلم كما ينبغي، وهذا مشاهد، ولذلك
تقع الآفة في أكثر الأحيان ممن تصدَّروا قبل الأهليَّة، ويتطور الأمر بهم
إلى أنْ يظنوا في أنفسهم إمامة المسلمين وحياطة الدين، وأن كلَّ مَن
يخالفهم فقد خرج من ربقة الإسلام؛ لوقوعه في الأئمة الأعلام!
• أن يصنِّفَ في سنٍّ صغيرة:
لأن التصنيف قبل التأهُّل نظير التصدُّر
قبل التأهُّل؛ كما أنه يجعل طالب العلم يقدِّم المفضول على الفاضل، ويحيد
عن مراتب الطلب الصحيحة، ويجهلُ كثيرًا من أصول الطلب التي لا يصحُّ أن
يجهلَها الطالب، وهذا أكثر ما يوجد في طلبة الماجستير والدكتوراه مع الأسف
الشديد؛ لأن هذه الرسائل العلمية عادة تكون مختصة جدًّا، ومعلوم أنَّ مرتبة
التخصُّص تسبقها مراتبُ أخرى، وهذا الطالب يعلمُ عِلْمَ اليقين أنه لم
يمرَّ بهذه المراتب، ولكن بعد انتهائه من رسالته العلمية يحسب أنه قد
استوفى هذه المراتب، أو أنه لا يحتاجها الآن بعد أنْ أنهى ما بعدها، فمثلاً
تجده كَتَبَ رسالة علمية عن "اعتراضات فلان على فلان في كتاب كذا"،
وهذه مرتبة تسبقُها مرتبةٌ أخرى، وهي معرفة أصول المناظرة، والاعتراض،
والجواب، ونحو ذلك، وتسبقُها مرتبة أخرى، وهي الاطلاع على كُتب فلان وفلان،
ومعرفة مقاصدها، وتسبقُها مرتبةٌ أخرى، وهي معرفة مذاهب العلماء في مسائل
هذا العلم، ومعرفة الراجح والمرجوح منها، وتسبقُها مرتبة أخرى، وهي معرفة
أصول هذا العلم على وجه الإحاطة، وتسبقها مرتبة أخرى، وهي معرفة مبادئ هذا
العلم التي يَنْبَنِي عليها.
فإذا حصل هذا الطالب على امتياز مع مرتبة
الشرف في رسالته العلمية، تراه يظنُّ باستجراء الشيطان له أنه قد حصل هذه
المراتب جميعًا، مع أنه لا يكاد يعرفُ منها شيئًا.
• أن يتخذَ تلامذة ومريدين يهديهم السبيل:
كهذا الذي تصدَّرَ مجالس التدريس وهو لم يبلغ العشرين بعد! واجتمع له من الطلبة مَن يحمل له الحِذاء، ومَن يُقبِّل يدَه... إلخ.
والعجب في هذا الذي سوَّلت له نفسه أن
يتصدَّرَ في مثل هذا العُمر، وكذلك العجب من هؤلاء الطلبة الذين لو كان لهم
مسكة مِن عقلٍ لما وقعوا في هذه الجهالة، وكذلك العجب من أهل العلم الذين
تركوا الفرصةَ لمثْل هذا، وكذلك العجب من أُولِي الأمر الذين لم يضربوا على
أيدي هؤلاء بقبضة من حديدٍ؛ لمنع هذه التفاهات من الرويبضة.
• أن يتكلَّم في كلِّ فنٍّ:
الكلام في كلِّ فنٍّ لا بأس به من حيث
الأصل، ولكن من علامة المتعالِم أنْ تراه يتكلم في كل فنٍّ بكلامِ مَن
أتقنَ هذا الفنَّ وصار من أهله، مع أنَّ عمره لا يكفي لإتقان فنٍّ واحدٍ!
وقديمًا كان العالم يقضي في فنٍّ واحدٍ
خمسين سنة ولا يكاد يستوفيه، وبما أننا في عصر السرعة، صار طالب العلم يقضي
في كلِّ فنٍّ سنة واحدة، فيحيط بكل العلوم في أقل مِن عشر سنوات!
• أن يجادلَ في البدهيات وينكر الواضحات:
كهذا الذي صنف كتابًا في أصول النحو زعم فيه أن (إن) لا تنصب ما بعدها! وأن (المثنَّى)
ينبغي أن يُنصبَ بالألف! وهو وإن كان منسوبًا إلى التخصُّص في هذا
الفنِّ، إلا أنَّ مثل هذه الأخطاء تدلُّ على تعالُمٍ واضح، وقد رأيت بعض
الطلبة الذين لم يبلغوا العشرين بعد وضع رسالة في مسألة نحْوية، ذَكَرَ
فيها أنه جمع ثمانية عشر شاهدًا لمسألة لم يجمعها أحدٌ قبله من أهل العلم!
فتراه بسبب هذه المسألة الواحدة يظنُّ أنه قد صار محيطًا بمسائل العلم
جميعًا.
• أن يشكك في كل شيءٍ، ويبيح الاختلاف في كلِّ شيء:
يزعم ذلك ويقول: لأني لا أستطيع أن أحجر
على عقول الناس، وأجبرهم على التقليد، فكل إنسان لا بد أن يقتنعَ بعقله،
ويصل إلى الصواب بنفسه! ولا يوجد شيءٌ متفقٌ عليه؛ بل لا يمكن أصلاً معرفةُ
الاتفاق على شيء؛ لأن الإحاطةَ بأقوال الناس مستحيلة، وحتى لو اتفقوا،
فهذا الاتفاق لا يدلُّ على أن ما سواه باطلٌ؛ بل إنَّ الناس لو اتفقوا،
لدلَّ ذلك على جمود الفِكْر، وركود العقول... إلى آخر هذه التُّرَّهَات
والبُطَّلات الواضحة.
والحمد لله ربِّ العالمين.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Social/0/32583/#ixzz1Pjzfvpau