فضلُ الأَدَبِ وَ الدّفاعُ عنه كلمةٌ مُضِيئَة للعلاّمة ياقُوت الحمَوِي
((
وَإنِّي لَجِدُّ عَالمٍ بِبَغِيضٍ يُنَدِّدُ ويزرِي عليَّ ، وَيُقبِلُ
بِوَجْهِ اللاَّئِمَةِ إليَّ ، مِمّن قَدْ أُشْْرِبَ الْجَهْلَ قَلبُهُ ،
واستَعْصَى على كَرَم السّجيّةِ لُبُّه ، يَزْعُمُ أنّ الإشتِغالَ بأمرِ
الدّينِ أهمّ ، ونَفْعُهُ في الدّنيا والآخِرةِ أعمّ ، أمَا علِمَ أنّ
النّفُوسَ مُخْتَلِفَةُ الطّبائِعِ ، مُتلَوِّنةُ النّزائِع ، ولو
اشْتَغَلَ النّاسُ كُلّهُم بِنَوْعٍ من العلمِ واحدٍ لضَاعَ باقِيهِ ،
ودرَسَ الذي يَلِيهِ . وإنَّ اللهَ عزّ وجلّ جَعَلَ لِكُلِّ عِلْمٍ من
يَحفَظُ جُملَتَهُ ، وينظمُ جوْهَرَتَه ، والمرءُ مُيسّرٌ لِما خُلِقَ له ،
ولستُ أُنْكِرُ أنّي لو لزِمتُ مَسْجِدِي ومصلاّيَ ، واشتَغَلتُ بِما
يعُودُ بِعاقِبةِ دُنيايَ في أُخراي لكانَ أولَى ، وبِطَريقِ السّلامَةِ في
الآخِرةِ أحرى ، ولكنّ طلبَ الأفضَلِ مفْقُودٌ ، واعتِمادَ الأحرى غيرُ
موجُودٍ . وحسبُكَ بالمرءِ فضلاً أن لا يأتيَ محظُوراً ، ولاَ يَسلُكَ
طريقاً مخطُورا ... ألاَ ترى أنّ القَارِئَ إذا قَرأ { إنّ اللهَ بَريءٌ من المشرِكينَ ورَسُولُهُ } (بالرّفعِ)
فقدْ سَلكَ طريقاً من الصّوابِ واضِحاً ، ورَكِبَ مَنْهَجاً من الفضْلِ
لائِحاً ، فإن كسَرَ اللاّمَ من (رَسُوله) كانَ كُفْراً بحتاً ، وجهْلاً
قُحّاً ؟ قدْ رُويَ أنّ أبا عَمرو بنَ العلاء كانَ يقُولُ : ( لَعِلْمُ
العربيّةِ هوَ الدِّينُ بِعَيْنِهِ ) ، فبلغَ ذلكَ عبدَ الله بنَ المبارك
فقال : صدقَ لأنّي رأيتُ النّصَارى قد عبدُوا المسيحَ لِجَهلِهم بِذلكَ ،
قال الله تعالى : أنا ولّدتُكَ من مريم وأنتَ نبيّي ، فحسِبُوه يقولُ : أنا
ولدْتُكَ من مريم وأنتَ بُنيي . فَبِتَخْفِيفِ اللاّم وتقديمِ الباء
وتعويضِ الضّمّة بالفتحة كَفَرُوا . وحَسبُك من شَرَفِ هذا العلمِ أنّ كلّ
علمٍ علَى الإطْلاَقِ مُفْتَقِرٌ إلَى معْرِفَتِه ، مُحتَاجٌ إلى
استِعْمالِه فِي مُحاوَرَتِه ، وصاحِبُه غيرُ مُفتقِرٍ إلى غَيرِه ، وغيرُ
مُحتَاجٍ إلى الاعتِضَاد والاعتِماد على سواه ، فإنّ العلمَ إنّما هو
باللّسان ، فإذا كانَ اللّسَانُ مُعوجّاً متى يَستَقِيمُ ما هوَ بِهِ ؟ وإن
أردتَ إقَامَةَ الدّليل على شأنِ أهلِ هذا الشّان ، وإيضاحَ فَضْلِهِم
بالدّلائِلِ والبرهان ، فَكُنتَ كمن تكلّفَ دَلِيلاً على ضياءِ النّهارِ ،
وإشراقِ الشّمسِ وإحراقِ النّار ، فإنّ ذلكَ لا يَخفَى على الصّامتِ من
الحيوان فكيفَ النّاطِق ، وعلى كلِّ كهٍّ فَهٍّ فكيف الحاذِق ...فهوَ لا
يَنْفُقُ إلاّ على من جُبِلَ على العِلمِ طَبْعُه ، وعُمِّرَ بحبّ الفضْلِ
رَبْعُهُ ، فظلّ للآدابِ خديناً ، ولِصِحّةِ العقْلِ قَريناً ، قدْ
عُجِنَتْ بالظّرافَةِ طِينَتُه ، وسُيّرت باللّطافَةِ سيرَتُه ، وأمّا أهل
الجهْلِ والغيّ ، والفهاهةِ والعِيِّ ، فليسَ ذا عُشَّكِ فادرُجِي ، ولا
مبيتَكِ فأدْلِجِي . فليُعفِني الْمُفَنِّدُ البغيضُ ، وليُعرِض عن
التّعْرِيض ... ))
نقلَهُ
يَراعُ ربيع بن المدني من كتاب [مُعجمُ الأدباء أو إرشاد الأريب إلى معرفة
الأديب ] للعلاّمة ياقُوت الحمَوِي الرّومِي [ج 1 ص 9 .10 . 11 ط دار
الغرب الإسلامي تحقيق إحسان عبّاس ] بتصرّق يسير
منقوووووول للفائدة