لم أركب الأتوبيس كثيرا في حياتي..لكني بعد ان اضطرتني ظروفي مؤخرا ان أبيع سيارتي لاسدد ديوني لم يعد مفر ان أجرب الأوتوبيس كوسيلة نقل بعد ان أرهقت جيوبي النحيلة تكاليف التاكسي الباهضة..
قررت أحد الأيام ان أقتصد المصاريف و أجرب رحلة في الحافلة العمومية..وبالفعل استجبت لهاته النزوة وقمت بالرحلة على متن هاته الحافلة العجيبة..ولا اخفيكم سرا انها كانت أسعد رحلة قمت بها في حياتي لانها ساعدتني على ايجاد جواب لسؤال فلسفي ظل يؤرقني مدة طويلة وأنا اراقب أحوال المجتمع حولي...
عدت سعيدا الى البيت و اول ما فعلته ان دخلت غرفتي و أمسكت ورقة و قلما لأكتب هذه المقالة:
--------------------------------
“في البداية كنت أضع الورقة في جيبي ولا ألقيها في الشارع استجابة لتعليمات أمي… بعد ذلك صرت أعاني من أزمة نفسية، فها أنا أمسك الورقة بيدي، أكاد ألقيها في الشارع، لكن نصائح أمي تطاردني، فإذا بي أحجم عن تشويه الشارع بها، لكنني لا أجد مكاناً أرمي فيه الورقة، ولم يعد في جيبي متسع، بدأت أتلفت حولي خشية أن يرمقني أحد، ثم ألقيت بها على أحد جوانب الرصيف”
سألته بعد أن أمسكت بقوة في عمود أستند عليه في الحافلة: لا شك أنك بعد ذلك كنت تتألم كلما تذكرت هذا الموقف.
رد علي متهكماً وهو بالكاد يحفظ توازنه: “بعد ذلك صرت أفتح نافذة السيارة لألقي بالورقة دون أن أبالي… كم كنت أحمقاً عندما فكرت في وضع تعليمات أمي موضع التنفيذ”..
قلت له وقد تمسكت بجسده هو في تلك المرة بعد هزة قوية: مستحيل.. تعليمات أمك هي الصحيحة… لا تخدع نفسك.
أجابني بعد أن دفعني: بل تعليمات النظام هي الواجبة الاتباع..
كانت أمي تطلب مني أن أقف في الطابور بنظام، وألا ألقي ورقة في الشارع، ولكم أخبرتها بحيرتي، فمن أحق بالإصغاء والبر؟؟ تعليمات الأم أم النظام؟؟!! فتعليمات النظام مفادها لا مفر من أن تلقي الورقة في الشارع، وأن تزاحم الناس في الطابور.
فكرت ملياً.. هل علينا أن نؤنب الأفراد لسوء سلوكهم أم أن هذا هو سلوك الأمر الواقع لا السلوك الأفضل، نظرت إلى من حولي في الحافلة… هل هذا الشخص البسيط هو المستحق للتأنيب أو حتى التوجيه؟ هل يكفي حث الناس على سلوكيات رائعة، أم يجب إيجاد النظم والقوانين المناسبة لجعل هذه الأخلاق واقعاً؟
قطع سيل الأفكار وقوف مفاجئ للحافلة، اصطدَمْتُ بالسيدة التي كانت بجواري… نظرت إلي وهي تكاد تفترسني قائلة: ألا تنتبه يا أستاذ؟
احمر وجهي.. قلت آسفاً: عفواً يا مدام.. لم أكن يوماً من الأيام تصادمياً.. غير أنه ما باليد حيلة. هذه ليست أخلاقي أو سلوكياتي… لكن النظام هنا في الأوتوبيس يسلبك الإرادة..
قاطعتني بغضب: أولاً أنا آنسة ولست “مدام”… ثانياً أرجو أن تسدي إلي جميلاً وتوقف خطبتك… ليس هذا وقت التفلسف.
صرخ السائق: يا جماعة لا تقفوا أمام الباب… حتى يتمكن الركاب من النزول…
حينها صاح أحدهم: وهل ترانا نقف أمام الباب بملء إرادتنا لنعرقل الحركة؟؟ أم أننا بقدرة قادر وجدنا أنفسنا أمامه؟؟
نظرت إلى وجه السائق عبر المرآة الأمامية شاكراً له أن منحني الإجابة… فما جدوى أن تقول لشخص في حافلة متكدسة لا تسد الباب؟؟ يبدو أن خلق النظام يأتي أولاً..
ثم عدت وطردت هذه الترهات من بالي، فالنظم الصالحة لا تطبق إلا على أفراد يستحقونها، وهؤلاء الحمقى الذين يحيطون بي في الحافلة هم المخطئون، ولابد من حملات توعية كبيرة لهم في كل مكان، حتى يغيروا سلوكياتهم، فالمجتمع ليس إلا أفراداً إن حسن سلوكهم حسن المجتمع. ولتكن الحملة الأولى بعنوان "لا تضغط على حذاء زميلك في الحافلة"، أما الحملة الثانية فهي "لا تقل للآنسة يا مدام"، وليكن شعار الحملة الثالثة "أن تتعلق على الأعمدة داخل الحافلة كالقرد خير لك من أن تسد الباب"، والحملة الرابعة "برجاء التقليل من معدل التنفس حفاظاً على الرائحة الحضارية للحافلة".
حُشرت الحافلة في شارع ضيق مليء بالمطبات، تكدست الأعداد فيها حتى برزت الوجوه للخارج من النوافذ، وامتلأت السلالم بالبشر… خلتني أقف على قدم واحدة، فالأخرى يبدو أن أحدهم أخذها بالخطأ وهو يلملم شتاته كي ينزل.
نظرت إلى أحد سعداء الحظ ممن نالوا شرف الجلوس على مقعد، رأيته مبتسماً ويتمايل في رقصة سخيفة، هممت بتوبيخه، لكنني تريثت، فلم يكن ذنبه أنه رقص رغم أنفه.. فقد أبطأت الحافلة وهي تتجاوز مطباً تلو آخر في ميوعة منقطعة النظير، حينها فكرت، ترى من الذي يرقص؟؟ هو أم هي؟؟ فإن كانت هي.. فلماذا "تتقصع" هكذا؟؟ لم تتراقص في شارع محترم وقد ضاق عليها ثوبها فبرز ركابها من الأرداف أمام أعين المارة؟؟ بدأ الركاب يلعنون الحافلة، يكادون يرجمونها، ولكن مهلاً.. هل تسعى للوقوع في الخطيئة؟؟ أم أنها تسير وفق تعليمات الشارع؟ أليس من الأولى إذن إصلاح البنية التحتية ثم الحكم عليها؟؟.
والبنية التحتية للسلوك هي النظم (الاقتصادية والاجتماعية....) التي تنظم الحياة، والسلوك هو انعكاس لكفاءة النظم وفاعليتها، فالحافلة تتأثر في مشيتها بالشارع، ومهما أرادت أن يستقيم سيرها فلا مفر أمامها من طريق الالتواء والميوعة بحسب ما يمليه عليها الشارع.
كنت كلما نظرت من الشباك ورأيت الناس في الشارع خلت الأخلاق في انهيار، فلم يعد في الناس خير، لكنني تيقنت أن العيب ليس بالدرجة الأولى في هؤلاء الطيبين، فقد ارتكبت في الحافلة بعض أخطائهم التي لم أذكرها. أدركت أن زيهم ولغتهم وسلوكهم لا يعكس ذاتهم بقدر ما يعكس ما هو أعمق منهم.. أدركت أن شيئاً ما خفياً كان يقود تصرفاتي، أن الفرد ليس هو وحدة بناء المجتمع، أن ما لا نراه يهيمن على ما نراه، فالهواء الذي لا نراه هو الذي يمنحنا فرصة جديدة كل لحظة كي نعيش، أما النظم التي لا نراها فهي التي تحدد لنا كيف نعيش!!…
نزلت من الحافلة بعد عناء... تنفست الصعداء... التفت إليها مبتسماً بعد أن أعدت هندمة ثيابي.. فالآن فقط عرفت إجابة السؤال.. من أين يبدأ التغيير؟؟ من تمهيد الشارع أم لعن ووعظ الحافلة الراقصة؟؟