كيف نحاسب أنفسنا
على رأس شهر رمضان وفي لحظات التحول والانتقال من عام مضى إلى عام جديد، تحضرنا الرغبة في محاسبة النفس مع دخول الشهر الفضيل أكثر من بقية أوقات العام، وفي الكثير من مواقف الحياة يكون شهر رمضان محطة مهمة للمحاسبة والتوبة والتماس المغفرة، وأيضا لضبط ومراجعة الحسابات لدى التجار والشركاء وأرباب الأموال، لإخراج الزكاة المفروضة، وحتى الغرماء الذين يترقبون موعد السداد.
والعبد المؤمن أجدر بمحاسبة نفسه على الدوام؛ لأنه لا يدري متى تحين ساعة الحساب بين يدي مولاه؛ ليعلم مكانه: مع الفائزين أم مع الخاسرين!!
أعزائي القراء والقارئات.
إنّ الله تعالى قد أمر المؤمنين جميعاً بمحاسبة أنفسهم تأهباً واستعدادا للعرض على الله تعالى يوم القيامة، في قوله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا أتقو الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون، ولا تكونوا كالذين نسُوا الله فأنساهم أنفسهم" سورة الحشر:18،19.
قال الحافظ بن كثير: وَقَوْله تَعَالَى: "وَلْتَنْظُرْ نَفْس مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ" أَيْ حَاسِبُوا أَنْفُسكُمْ قَبْل أَنْ تُحَاسَبُوا وَانْظُرُوا مَاذَا اِدَّخَرْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ الْأَعْمَال الصَّالِحَة لِيَوْمِ مَعَادكُمْ وَعَرْضكُمْ عَلَى رَبّكُمْ" وَاتَّقُوا اللَّه " تَأْكِيد ثَانٍ " إِنَّ اللَّه خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ" أَيْ اِعْلَمُوا أَنَّهُ عَالِم بِجَمِيعِ أَعْمَالكُمْ وَأَحْوَالكُمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْكُمْ خَافِيَة وَلَا يَغِيب عَنْهُ مِنْ أُمُوركُمْ جَلِيل وَلَا حَقِير .
نعم ..إنّ محاسبة المرء لنفسه وهو مازال في فسحة العمل من أسباب تيسير الحساب عليه يوم القيامة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في خطبته: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فإنه أهون لحسابكم، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر، "يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ".
كما أن الغفلة عن محاسبة النفس وتقويمها يعد سبباً من أسباب شدة الحساب يوم القيامة، عن الحسن رحمه الله: "المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة"رواه الترمذي وحسنه.
وكثير منا يتصور أنّ محاسبة النفس لا تلزم إلا عند الوقوع في المعصية، أو عند نزول البلاء، أو في المناسبات الدينية.. ويغفلون عنها في أوقات العافية !
والبعض يحاسب نفسه ويلومها ولكنه لا يبذل جهداً في التغيير للأفضل فتبقى محاسبته لنفسه مجرد عاطفة وشعور بالندم السلبي مع بقاء الحال كما هو ..!!
لذلك نحتاج في هذا الشهر الكريم إلى فقه محاسبة النفس..كيف نحاسبها؟ وماذا بعد المحاسبة؟
- المحاسبة في جميع الأوقات:
محاسبة النفس لا تكون فقط في نهاية العام أو في شهر شعبان أو رمضان، وإنما في كل الأوقات، ربما تكون بعض المناسبات سببا للمراجعة والمحاسبة مثل نهاية العام، أو شهر رمضان المبارك أو غيرها من الأيّام الفاضلة.
ولكن يبقى الأصل أن نفس المؤمن اللوامة دائمة المحاسبة لصاحبها، عن الحسن – رحمه الله- قال: "لا تلقي المؤمن إلا يحاسب نفسه: ماذا أردت تعملين؟ وماذا أردت تأكلين؟ وماذا أردت تشربين؟ والفاجر يمضي قدماً لا يحاسب نفسه.!"
- المحاسبة الصادقة المدققة:
بمعنى أن لا نتعامى عن بعض العيوب والثغرات المفتوحة عن اليمين والشمائل والتي قد نُؤْتَى من قِبَلِهَا، قال ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه"، ولذلك قيل: النفس كالشريك الخوّان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك.
قال مالك بن دينار:"رحم الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ألزمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائداً".
فالأمر لا ينتهي عند محاسبة المؤمن لنفسه ووقوفه على آفاتها وعيوبها، ولكن لابد من ظهور أثر ذلك على سلوكه من:توبة وتصحيح وتعديل لما كان معوجاً أو خاطئاً في سلوكه أو أسلوب حياته.
- ومن فقه المحاسبة ألا تخدعنا أنفسنا:
كان الصالحون على علم بأن للنفس روغان وميل لاتباع هواها، وللشيطان مداخل وتلبيسات ولذلك كان لديهم إصرار عجيب على إصلاح عيوبهم، والتخلص من آفات النفس القلبية والسلوكية..وغيرها؛ فيبتكرون لذلك طرقاً وأساليب عجيبة في محاسبة النفس !
فمنهم من كان يسبّح عدد أيام عمره، ومنهم من كان يحاول أن يعد سيئاته ليستغفر بعددها،ومنهم من كان يطلب من المقربين منه أن ينصحوه ويقوموه.
قال حرملة:سمعت وهب بن منبه يقول: "نويت أني كلما اغتبت إنسانا أن أصوم يوما فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم، فنويت أني كلما اغتبت إنسانا أني أتصدق بدرهم؛فمن حب الدراهم تركت الغيبة".
قال الذهبي معلقاً على هذا الأثر:هكذا والله كان العلماء،وهذا هو ثمرة العلم النافع.(سير أعلام النبلاء:9/228).
- مراعاة الأولويات في المحاسبة:
والأولويات ما رتبه الله تعالى وبيّنه لنا النبي صل الله عليه وسلم، وعلى أساسها تكون محاسبة النفس منضبطة،عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول:"ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" رواه البخاري ومسلم.
وفي الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم " إنّ الله تعالى قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أُحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينّه ، ولئن استعاذني لأعيذنّه" رواه البخاري.
وأخيراً أعزائي..
من فقه المحاسبة أن يستشعر المسلم دوره ومسؤوليته عن أحوال أمته وما ألمّ بها من أحداث، وما ينزل بها من محن، وعن عثراتها في طريق النصر والظهور على العالمين، أين موقعه، وما هو دوره ، وماذا يستطيع أن يقدم لنصرة دينه، وهل قصّر في ذلك أو تقاعس؟
إنّ أول خطوة في طريق نصر الدين أن نصلح من أنفسنا، ونغير من واقعنا إلى الأفضل..وهذه هي سنة الله تعالى التي بيّنها في كتابه العزيز:"إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" سورة الرعد 11.
فلنبدأ مع هذا الشهر الكريم، محاسبة واعية للنفس المؤمنة التي ليس لها غاية سوى إرضاء مولاها والعمل لنصرة دينه وإعلاء كلمته.
وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.