في ليلة واحدة تجتمع القلوب في بيوت الله،
تدب كصفوف اجتمعت لتغتسل في دموع التوبة والسؤال والرجاء، وتقف بين يدي
الله لتتعرى أمامه من جميع ما يمكن أن يكون علق بالنفس البشرية خلال عامها
ذاك، فتعيد حياكة الذات من الداخل، وتحلم بأن تتخلص من كل خطاياها
ونواقصها.
تأتي ليلة القدر ليمنحنا الله -عز وجل- فرصة للعودة وللرجاء حتى تتشكل
من خلال تلك الليلة أقدار العبد الجديدة، والتي تتغير بفعل الدعاء والرجاء
واللجوء الحقيقي الذي يخرج من داخل العبد بتوسلات مختلفة، يعي من خلالها
كيف يكون شكل الاغتسال في ليلة القدر يمنح الرحمن للعباد أن يشتكوا إليه،
وأن يطلبوه، وأن يرجوه، وأن يصعدوا إليه حينما ينزل إليهم -نزولاً يليق
بعظمته-، وأن يعترفوا بكل ماصنعوه وهو أعلم بهم، ولأنها الليلة التي يجتمع
فيها الملائكة ليكتبوا، والبشر ليرجوا ويغيروا، فإنها ليلة عظيمة تمنحنا
خلقاً جديداً، يولد بذواتنا، ويعيد ترتيب الأوراق المبعثرة بداخلنا.. فكل
من عاش فضل ليلة القدر يدخل إليها بقدمه القديمة ليخرج بعدها بساقين
جديدتين تمنحانه «العصا السحرية» التي تقلب موازين الحياة أمامه، تهديه
حياة جديدة، وأقدارا متفتحة، ونوراً يسطع على كل الأشياء بداخلنا حتى
نظرتنا للأشخاص والأشياء والقيم واليوميات.
إن استشعار ليلة عظيمة يتكاتف العباد من خلالها كوحدة واحدة يسألون من
خلالها الله -سبحانه- صعب هو تصنيفها أو وصفها، فالناس هنا حينما تصلي في
ليلة القدر وتلجأ إلى الرحمن بالقيام والدعاء فإنها إنما تحرر ذاتها من
جميع القيود، وترضخ تحت تأثير تلك الليلة إلى لحظات من إعادة الموازين
لنصابها، والتأمل، ثم العزم على أن تتصالح مع نفسك في كل مايخصها، وربما لا
يحدث ذلك كثيراً لكل من صلى ليلة القدر وسأل الله واشتكى.. يحدث لمن جاء
لله صادقاً، عازماً على أن لا يخرج من اجتماع ذلك المكان إلاّ وهو من
الفائزين، والفوز هنا.. لا يمكن وصفه كشيء محسوس يمسكه العبد بيديه بعد أن
تنتهي ليلة القدر وهي التي وصفت بأنها خير من ألف شهر.. بل إن الفوز بشكله
العميق هنا أن تستشعر بأن ملائكة محت ماكان في صحائفك من ذنوب وعدت طاهراً
جديداً ومقبولاً..القبول الذي يسمو بنفسك، ويخلق بداخلك عالما جديدا حتى في
تطلعاتك المستقبلية، واعتقادك بالوجود، ويمتد حتى إلى أذرع المحيطين بك في
الحياة.
الطريق الذي نمشيه طويل.. طويل بقدر كل الخيبات التي تقصم ظهورنا، وبقدر
الابتلاءات التي يختبرنا بها «الله».. وليلة القدر.. موعد اللقاء بالرب
العظيم.. نقفل على أنفسنا في غرفنا التي تقبع بداخل الروح، لنفضي إليه
-سبحانه- بكل ما يرضيها ويعذبها، نفعل ذلك، ونبكي ونتضرع لأننا نؤمن بأنه
-سبحانه- من يقدر ولا أحد سواه يقدر على أن ينصفنا في الوقت الذي ظلمنا به
الكثيرون، يقدر على أن يرحمنا في الوقت الذي قسا به الكثيرون، يقدر على أن
يعطينا في الوقت الذي أمسك به الآخرون، يقدر على أن يطهرنا في الوقت الذي
وسخنا به أنفسنا..
ليلة القدر.. ليلة واحدة من عشر.. فيها تكتب أقدار العباد وأرزاقهم ومن
هو المرحوم منهم والمغفور له والمغضوب عليه.. ليلة واحدة نجرب فيها أن نكسر
بداخلنا عناداً من المكابرة في النفس.. وأن نقترب من الله ونكون من
الفائزين. فهل طرقت بابها وعزمت على الاغتسال من حوض الله؟.
اللهم لاتحرمن ليلة القدر
اخوكم ومحبكم ع. الهادي