سررت كثيرا وأُثلِج صدري حين قرأت رسالتك، وقلت في نفسي: لله الحمد، فمازال في الناس خير كثير، ومازال منهم من يصبح ويمسي وهمه كتاب الله عز وجل– وحفظه وتلاوته.
بداية أبشرك أخي بأن حبك للقرآن ولسماعه – خاصة حين يكون السماع بتعقل وتدبر وإنصات وإعجاب – يجلب لك أجرا كريما وثوابا عظيما من الخالق – سبحانه وتعالى.
لقد كان– رسول الله صلى الله عليه وسلم – يحب أن يسمع القرآن من غيره، كما صرح هو – صلى الله عليه وسلم – بذلك لابن مسعود حين سأله: يا رسول الله أقرأ عليه وعليك أنزل؟ فقال: أحب أن أسمعه من غيري. وقد كان – صلى الله عليه وسلم – يتفاعل مع القرآن حتى إن ابن مسعود حين وصل قول الله سبحانه – من سورة النساء – (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا) ( النساء :41) قال صلى الله عليه وسلم حسبك، يقول ابن مسعود: فنظرت فإذا عيناه تذرفان .
فهنيئا لك أخي توافق فطرتك مع فطرة خير البشر وتوافق هواك مع هواه صلى الله عليه وسلم، وهو القائل "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"، وأي هوى خير ممن يهوى سماع القرآن، ويعقل ويتدبر وينصت (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَّشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) الزمر:32.
ولا يفوتني أن أبشرك بحديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة، ومنهم "شاب نشأ في عبادة الله"، وأرجو الله أن تكون منهم.
أخي الكريم، نعود إلى ما أوردته من معلومات في استشارتك وهي كما يلي:
1. تحفظ السور القصيرة منذ طفولتك.
2. ضعيف الذاكرة بشكل ملحوظ.
3. لا تستطيع الحفظ هذه الأيام.
ما ذكرته يا أخي صحيح طبيعي تماماً ؛ لأن أخصب مراحل العمر لحفظ القرآن هي مرحلة الطفولة، وكما يقولون: التعليم في الصغر كالنقش على الحجر.
فليت الآباء المسلمين يدركون ذلك جيدا ويدركون عظم مسئوليتهم تجاه أبنائهم فيعلموهم القرآن من صغرهم .
ثم إن الذاكرة تقل فعلا مع تقدم العمر عما كانت عليه في الصغر، لكن أن تكون أنت ضعيف الذاكرة بشكل ملحوظ فهذا ما قد تختص به دون الأعم الغالب من الناس.
ويترتب على ذلك طبعا أنك لا تستطيع الآن الحفظ بسهولة ويسر، ولكن – يا أخي – إن من رحمة الله تعالى أن يسر القرآن للحفظ والادِّكار والفهم والتلاوة، فإن شئت أن تكون من حفظة كتاب الله كنت، ولكن لا بد من العزيمة والهمة العالية، فشمر يا أخي واشدد إزارك واستعد لأنْ تكون من صفوة الله في الأرض ومن أهل القرآن وخاصته.
وأحب أن أشير إلى أنك طالما كنت طبيعيا في صغرك فإنك طبيعي الآن أيضا، وإلى أن ضعف الذاكرة الموجودة الآن عندك ليس مرضا أو جبلة فيك بقدر ما هو مسبب عما قد تفعله من ذنوب ومعاص، إضافة إلى ضغوط الحياة والمسئوليات.
فالأسباب المادية ليست هي كل شيء في مثل هذه الأمور خاصة، وهذا هو الحسن البصري يشكو إليه رجل ويقول: يا إمام، أعد طهوري، وأنام مبكرا، وأعزم على القيام فما بالي لا أقوم؟! فقال: قيدتك ذنوبك.
فتقوى الله هي الأساس المتين قبل أن تدخل في أسباب مادية أخرى.
وبعد تحقيق هذا الشرط إن كانت لديك مشكلة في الذاكرة فإن الأمر هين ويسير، والتغلب على ضعف الذاكرة ما أيسره وأسهله بشيء من التنظيم والترتيب، وإليك يا أخي بعض النصائح التي أسأل الله أن ينفعك بها وينفع بها المسلمين ويرزقني فيها الإخلاص – فأقول وبالله التوفيق:
أولا: لا بد من الشيخ، لابد من الالتزام على متخصص حافظ للقرآن، لأن ذلك سيحملك معظم الأوقات على ألا تكسل أو تقصر على الأقل حياء من شيخك، وحفظا لماء الوجه معه. ثم إن ذلك يفيدك في ضمان النطق الصحيح والأداء السليم للقرآن. ولقد أثر عن مشايخنا قولهم: "لا تأخذ العلم من صحفي، ولا القرآن من مصحفي"، أي لا يؤخذ العلم من الكتب دون عالم ، ولا يتعلم القرآن من المصحف دون شيخ حافظ.
ثانيا: قلل من الكم المحفوظ إلى القدر الذي لا يجهدك ذهنيا، فذلك أدعى لحسن حفظه وتثبيته في الذاكرة... فإن كنت تستطيع حفظ صفحة مثلا فاحفظ نصفها فقط مع التركيز في الحفظ وكثرة التكرار حتى بعد الوصول للحفظ التام.
ولا تستقل أن تحفظ القليل من القرآن ، ولو آية واحدة يوميا؛ فلأن تزداد كل يوم آية وتتقنها خير من أن تبقي هكذا دون حفظ... فلا أنت تحفظ جيدا ولا أنت تكف عن المحاولة، وأخشى أن تصل إلى اليأس من نفسك وتفقد الثقة في قدراتك.
وهذا مدخل من مداخل الشيطان ليفسد عليك همتك ويكسر عزيمتك ولقد أوصانا نبينا – صلى الله عليه وسلم – فقال: "أحب الأعمال إلى الله – تعالى – أدومها وإن قل"، وقليل دائم خير من كثير منقطع كما يقولون.ولقد عاينت بنفسي وأنا أمارس التحفيظ من يستعجلون فلا يقنعون بحفظ القليل لا يكادون يتخطون الجزء الخامس، أما غيرهم ممن كان يلتزم بالنصيحة ويقلل الكم المحفوظ مع المداومة فقد أتم بحمد الله الحفظ كاملا.
ثالثا: المداومة اليومية وعدم الانقطاع مهما كانت الظروف، وإن لم تستطع الالتقاء بشيخك يوما ما فاستمر في حفظك حتى تلاقيه وتقرأ عليه كل ما حفظت.
ولتنجح في هذه الجزئية فلا بد من الالتزام بما ذكر في ثانيا.
رابعا: استعن بالكتابة على تثبيت الحفظ.
وهذه وصفة مجربة وجيدة وبإذن الله مضمونة.
ولقد كان مشايخنا لا يحفظون إلا على الألواح التي يكتبونها بخط يدهم أمام شيخهم. حتى إننا إلى عهد قريب في الريف كنا نسمي النص المحفوظ بـ "اللوح". وقد تحتاج إلى تكرار الكتابة لتقوية وتثبيت الحفظ.
خامسا: كثرة السماع للمحفوظ.
وأظنك تقوم بذلك – كما ذكرت في رسالتك – لكن قد تحتاج إلى ترشيد. فركز سماعك فيما أنت بصدد حفظه الآن وفيما تم حفظه من قبل للمراجعة والاستذكار.
سادسا: اقرأ ما تحفظه مما سبق، أو مما أنت بصدد حفظه وهو الأولى في صلواتك، فإن كنت إماما قرأت به وإن كنت مأموما قرأت به في السرية، أو قرأت به في النوافل.. المهم أن تستعمل ما تحفظه في صلاتك دائما.
سابعا: التعاهد بالمراجعة المستمرة.
وهو في نظري قوام كل ما ذكر سابقا، وهي عمدة الوصايا جميعا، وبها تحافظ على ما حفظت وتضمن بإذن الله ألا ينفلت منك، وقد أوصى بها خير البشر – صلى الله عليه وسلم – حين قال: "تعاهدوا القرآن، فإنه أشد تفصيا من الإبل في عقلها"
وأخيرا أخي الحبيب..
أسأل الله العظيم أن يوفقني وإياك ويشرح صدري وإياك وينفعني وإياك ويهديني وإياك والمسلمين إلى الصراط المستقيم، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته.