أحمد الحاج حمادي .. الأرشيف الحي

 



أحمد الحاج حمادي .. الأرشيف الحي

قد لا تكفي هذه السطور للوقوف عند محطات حياة هذا الرجل الموسوعة، و لكنها ستسلط الضوء على فصول مهمة من حياته بدءاً من مولده، مرورا بطفولته، دراسته، أسفاره و إنجازاته ثم انتهاءً عند نشاطاته الحالية. التقيتـُه في مكتب منزله فاستقبلني ببشاشة كبيرة، و بعد دردشة خفيفة معه سألته بضعة أسئلة حول حياته فشرع بالإجابة عليها لأجد مسيرته حافلة بالأحداث و المواقف، فيكفيه فخرا أنه حاضر حول موضوع الفقارة في جامعة "ميجي" بمدينة طوكيو اليابانية في قاعة ممتلئة عن آخرها بالعلماء و عشرات الصحفيين و مسؤولين رفيعي المستوى و هذا سنة 1991م.

مولده و نشأته:
                 
في خريف 1937م و بالضبط يوم عـرفة الموافق لـ 27 سبتمبر ولد أحمد الحاج حمادي بمدينة أولف الواقعة جنوب شرق ولاية أدرار، مع العلم أن كلمة الحاج تدخل ضمن اسمه الحقيقي تبركا بيوم ولادته، نشأ في أسرة فقيرة ضمت والديه و إخوته و أخواته، حيث كان هو الذكر الوحيد في أبناء الأسرة ليقع على عاتقه حِمل العمل و مشاقـه. تلقى تعليمه القرآني بالكتّاب على يد الشيخ محمد عبد الله البوكادي رحمه الله، و كان أن أرسله شيخه في صيف 1949م للبحث عن شخص يستطيع ترجمة عنوان إحدى الرسائل للغة الفرنسية قصد إرسالها عبر البريد، فبحث الحاج حمّادي طويلا و لم يجد ليعود لشيخه بدون ترجمة الرسالة، ما جعل شيخه يرافقه إلى السيد محمد الفرح رحمه الله طالبا منه أن يعلم اللغة الفرنسية للحاج حمادي، فكان أن تلقى دروسا خصوصية بوسائل تقليدية (لوحة خشبية يُكتب عليها، و قابلة للمَحْو)، مع العلم أن محمد الفرح كان في ذلك الوقت ممرضا في العيادة الطبية بمدينة أولف.

تعليمــــه:

لم يكن يتصور الحاج حمادي أن يدخل في يوم ما للمدرسة الفرنسية بآولف و عمره 14 سنة، فقد كانت الأعراف آنذاك ضد الدراسة باستثناء تعليم القرآن الكريم، إلا أنّ والده رحمه الله و بحُكم أسفاره و عمله بضواحي مدينة بشار جعلته يدرك قيمة العلم و يوجه ابنه للالتحاق بصفوف الدراسة في نوفمبر 1949م. حماسته للدراسة و حبه للتعلم جعلته يتميز بين أقرانه، فمنحه القائمون على شؤون المدرسة فرصة للسفر لفرنسا لاستكمال دراسته في 1952م أين اكتسب الطلاقة في اللغة الفرنسية ثم ما لبث أن عاد لأرض الوطن ليتحصل على الشهادة الابتدائية في 30 أفريل 1953م بمدينة عين صالح. شارك بعدها بمسابقة للتكوين المهني ببشار في تخصص ميكانيك و تمكن من اجتيازها بنجاح ليتخرج سنة 1955م بحرفة ميكانيكي. اختار الحاج حمادي الاهتمام بمجال الجيولوجيا و البترول فتوجه لمدينة عين صالح أين استقبل أول قطرة بترول استـُخرجت في "تيقنتورين ايدجولي" بنواحي إليزي و التي جاءت عن طريق طائرة خاصة إلى مطار عين صالح، و مـكث هناك قرابة السنة ليأتي له مدرسه انغي ايجو و ينصحه بالتوجه إلى مجال الزراعة و التي درسها خلال الموسم الدراسي 1956م - 1957م في المحطة الفلاحية التجريبية بـ "اغفيان" 70 كم شمال مدينة تقرت، ليتحصل على شهادة مرشد زراعي، ثم عُين بمدينة أولف ليشغل هذا المنصب و بقي فيه حتى سنة 1963م و هذا بالموازاة مع عمله ككاتب عام لدى القبطان.

عـلاقته مع الباحث "كوبوري إيواو":

كان شهر أكتوبر من سنة 1961م منعطفا هاما في حـياة الحاج حـمادي، حــيث إن الباحث الياباني و البروفيسور في جامعـة طـــوكيو اليابانية كـوبوري ايواو جاء لمدينة أولف قــــصد البحث في نـــظام الســقـي التقليدي "الفقارة" فـــطلب مــترجما للتواصل مــعـــــــه فكان أن أرشدوه للحاج حمادي الذي كان يتقن اللغة الفرنسية و مِن هناك بدأت العلاقــة بينهما لتتوج بكـتابين مشتركين بينهما حول الـــفقارة من تأليف الباحـث كوبوري و بإعانة الحاج حمادي، و هـــــنا أسرُد قـــصة طريفة رواها لـــي الحاج حـــمادي وقـــــعت أحداثها سنة 1961م، حــيث ذهــــــــب هـو و الباحث الياباني كـــــــــــــوبوري إلى مدينة تيط أين كانت تتواجد فقارة عاطلة لم ينزل لها أي أحد منذ 20 سنة و قد كان مُتــــداولا بين الناس آنذاك أن الجـــــن هي مــــــن شيدتها و من ينزل لها يُصاب بالعمى، فــــــــنزل الحاج حمادي رفقة كوبوري للفقارة و أخذا مـــــنها عينات  ثم صعدا منها و حدقا بالحضور ليطمِسا خــــــــــــرافة عمّرت طويلا في عـــــــقول سكان المدينة. أعمال الحاج حمادي مع كوبوري جعلته محط اهتمام الصحافة اليابانية، فكان أن قامت التلفزة اليابانية بالاشتراك مع التلفزة الجزائرية بعمل شريط وثائقي مدته 45 دقيقة حول أبحاثه مع كوبوري سنة 1969م. أما عن كوبوري فهو عالم ياباني مختص في الجغرافيا قام بعدة أبحاث حول نظام الفقارة في عديد الدول كإيران و سوريا و أفغانستان و الصين و البيرو، و قد أصبح لاحقا المستشار الفلاحي للأمين العام لهيئة الأمم المتحدة الأسبق كوفي عنان، و رغم هذا فقد دأب على زيارة مدينة أولف كلَّما تتاح له الفرصة و هذا قبل أن توافيه المنية في أواخر عام 2011 م.

حياته المهنية و الشخصية:

عند سؤالي له عن حياته المهنية أجابني الحاج حمادي أنـــــــــه كـان يـنوي الانخــــــــراط في صفــــــــوف الجيش الفـرنسي برتبة ضابط، فـــذهب للـــــحراش بالعاصمة سنة 1955 م  لإجراء الامتحان العسكري حيث لم يـــــــكـــــــــن على دراية بانطلاق ثـورة التحرير المجــــــيدة، و هناك بالحراش علِم بخبر الثورة فتراجع عــن قراره  لكي لا يقف ضد  ثورة التحرير الجزائرية، فـعاد بعدها إلى مـدينة أولف، و غـداة الاستقلال و في سنة 1963م درَس الحاج حــــمادي في بوزريعة بالعاصمة لمـــــدة ثلاثة أشهر ليتحصل على شهادة مـمرن تربوي و يقتحم عالم التعليم، تدرج في المناصب التربوية بدءاً بـــممرن ثم مساعد ثم مــدير ابتدائية مـــزامنة مع معلم ثم أستاذ تعليم مــــــتوسط وصـولا إلى انتدابه كأستاذ بالثانويـــــــــــــة، و لعل أبرز حــــــدث في مسيرته المهنية هو حــــصوله على أول وسام استحقـــــاق وطني للتربية مـــــــــن يدَيْ وزير الحكومة الأسبق مقداد سيفي يوم 16 أفريل 1995م بقاعـــــة الأوراسي فكان أول شخص بالجزائر يتحـــــــصل على هذا الوسام. شهد له الجميع بتفانيه بالعمل و لا نكاد نجد أستاذا بأولف إلا و للحاج حمادي فضل عليه سواءٌ بتدريسه أم بتوجيهه أم عدا ذلك، إتقانُـه للغة الفرنسية و تحكمه الكبير بها لم يثنه عن تقديم لغته الأم العربية في المحافل و المناسبات، أضف إلى ذلك امتلاكه لخط جميل نادرًا ما نجده عند أحدهم. أكمل الحاج حمادي مسيرته المهنية بالتقاعد في أكتوبر 1997م. أما عــــــــن حياته الشخصية فقد تزوج في خريف 1959م و رزق ببنات و بنين بلغوا مستويات عالية في تخصصاتهم، و شاءت الأقدار أن تفارق زوجته الحياة يوم 4 جانفي 2012 م.

نشاطاتـــــــه:

لو قلنا إن الحاج حمادي متعدد المواهب فلا عجب، لأنَّه جمع بين عديد الفنون و النشاطات، فلو بدأنا مثلا بفن التصوير الفوتوغرافي لوجدنا أن له قصة حب معه، فمنذ أن كان صغيرا و ولعُه بالتقاط الصور لا ينتهي، و هو حاليا يملك أكبر أرشيف ضخم من الصور القديمة بالمنطقة و التي تعدّ بالآلاف، وفي أثناء لقائي معه أراني صورا هامة سواءٌ ما تعلق منها بتاريخ مدينة أولف كأول صورة ملتقطة بالفقارة أم أول صورة لمدرسة ابتدائية بالمـــــــنطقة أم صــــور تتعلق بــــمسيرتـــــــه الشخصيـــة كصورة له مع وزير الداخلية الأسبق نور الدين يزيد زرهوني أم مع وزيرة الثقافة الحالية خليدة تومي أم مع سفراء لبعض الدول أم مع قيادات و مسؤولين سابقين و حاليين في مختلف القطاعات بالجزائر.   أما لو تحدثنا عن أسفاره فسنجد أنه طاف بالعديد من البلدان كاليابان و فرنسا و ألمانيا و إيطاليا و سويسرا و لوكسمبورغ، و لو تحدثنا عن مؤلفاته لوجدنا أنه لم يهتم بهذا المجال كثيرا إذ إن له كتابَين مُشترَكين مع العالِم الراحل كوبوري و الذيْن أشرنا لهما سابقا في معرض حديثنا عن أبحاثهما المشتركة، أو كتاب حول سيرته الذاتية لم ير النور إلى حد كتابة هذه السطور. كما أن للحاج حمادي تجربة في مجال السياسية حيث تقلد منصب عضو المجلس الولائي بولاية الواحات (ورقلة حاليا) في الفترة الممتدة ما بين 1969م و 1974م.

و للحاج حمادي اهتمام بمجال التراث المحلي للمنطقة فعند دخولي لمكتب منزله وجدته تحفة تقليدية بكل ما للكلمة من معنى، يشمل مكتبة و متحفا يضم أدوات تقليدية و حجارة و عظاما تعود إلى ما قبل التاريخ، و بلمحة صغيرة في أرجاء المكتب وجدتُ أنه آية في النظام، فكل شيء مصنف و مرتب و مؤرخ مما يجعله مالكا لتراثٍ يعد ذاكرة حية لمدينة أولف.

ماذا يعمل الآن؟

حاليا و بعد تقاعده من وظيفته تفرغ الحاج حمادي لخدمة بساتينه و هو يُكمل كتابه الذي يستعرض فيه مسيرة حياته، فرغم تقدمه بالسن إلا أنه لا يزال مُحافظا على روحه المرحة و هذا ما ظهر لي جليا خلال حديثي معه، فلا تخلو قصصه من النوادر و الطرائف المضحكة التي يكسر بها سرد كرونولوجيا الأحداث. يعيش حاليا في منزله بمدينة أولف بمعية أسرته، و يعد بحقّ عَلمًـا بارزا من أعلام المنطقة و حبرا شاهدا على أهم محطات تاريخها، أعماله تتحدث عنه إلى اليوم، و ذكرياته غلبت ذاكرته التي بدأ النسيان و طول الزمان يرهقها، أشخاص كهؤلاء ليس بوسعنا سوى الوقوف طويلا أمام مشوارهم لنستلهم منهم العبر و نشد بهم الهمم و نتخذهم قدوة في الطموح و العمل و المثابرة، فحفظ الله الحاج حمادي و أطال الله في عمره للصالحات.