تناقضات بين أبيضين
كان هذا الموضوع آخر ما كتبَـته أصابع أخي الفقيد عبد المجيد madjidarchi عليه رحمة الله، لا أخفي عليكم أنني وقفت كثيرا - وبشيء من الألم - عند هذا الموضوع حين قرأته أول مرة، كان ذلك قبل رحيله ببضعة أشهر، لأنني أعرف أخي جيدا فهو غير معتاد أن يكتب كلمات يتسلل لها اليأس، فرغم مشاكله الصحية والصعوبات الكبيرة التي كان يواجهها في سبيل أن يرسم مسار حياته ويؤمن عملا شريفا له، إلا أنه كان لا يضع سقفا لطموحاته، فلطالما أحب الحياة وسعى فيها وعينُه دائما على الغد، موضوعه الأخير بالمنتدى أعطاني إحساسا سيئا، فلقد حاولتُ خلال ردي على الموضوع أن أكون سطحيا، متجنبا أن أربط ما ذكرَه من معاناة في موضوعه به هو، وحتى بعد لقائنا لم أجرؤ أن أحدثه في الموضوع.
في آخر مرة أتى فيها إلينا كنتُ أرْقُـبه خفية، لم يعجبني بتاتا، فالتعب كان واضحا عليه. عادةُ أخي كانت أن يأتي لزيارتنا في نهاية الأسبوع كلما سمحت له الفرصة، وفي كل مرة يأتي كنتُ أذهب معه إلى زيارة أقاربنا مساء الجمعة، ولكن مساء آخر جمعة عشتها معه كان نائما من شدة التعب، ألقيتُ عليه نظرة وآثرتُ أن يستريح على أن أوقظه ليأتي معي كما اعتدنا. لمّا عدتُ للمنزل وجدته في مكانه غير أنه كان يقظا، طلبتُ منه أن يوصلني ليلا للمحطة لأنني كنت سأسافر، فقال لي كعادته: "ربي يجعل ليها تاويل خير"، بعد أن ودّعتُ الجميع ركبتُ معه ووالدتي أيضا، وأوصلني للمحطة وأنا أتذكر كل الكلام الذي قلناه والابتسامة التي كانت تعلو مُحياه، بعد أن أخذتُ التذكرة ودّعتني أمي وودعني هو بكلمات لا أنساها، ثم ذهب مع أمي ليوصلها إلى بعض شأنها، وأنا مكثتُ قليلا حتى أتت الحافلة وركبتُ بها وانطلقتْ بنا، وما هي إلا دقائق حتى اتصل بي يسألني إن غادرتُ لأنه عاد إلى المكان الذي تركني فيه ولم يجدني، فأجبته أننا انطلقنا، فدعا لي بالسلامة.
تكررت الاتصالات بيننا وبقيتْ آخر مكالمة لي معه عالقة في ذهني، ذلك أنها كانت الأخيرة التي أسمع فيها صوته قبل أن يختاره الله إلى جواره، بعد سماعي بالحادث الأليم عُدت إلى بلدي وطوال الطريق وأنا أتذكره وأتذكر كلماته وتصرفاته وأحلامه وبعض أسراره التي كان يخبرني إياها ولا يعزيني في ذلك سوى الرضا بقضاء الله وقدره.
بعد عودتي للمنزل وجدته عامرا بالمواسين - جزاهم الله كل خير - وبعضُ أصدقائه الذين كانوا معه في أيامه الأخيرة يذكرون تفاصيل آخر لحظات حياته، فسبحان الله، ما أشبه اليوم بالبارحة، قبل تسع سنوات فقدَتْ أسرتنا أكبر أبنائها: محمد رحمه الله، والذي كان توأم روح فقيدنا عبد المجيد، فقد لعبا معا وكبرا معا وتربيا معا وتشاجرا معا وتقاسما حلو الحياة ومرها معا، ليأتي قدر الله ويفرقهما، ولم يكن خافيا آنذاك مدى تأثر عبد المجيد برحيل أقرب إخوته له، ليكتب الله بعد سنوات أن يلتحق الأخ بأخيه في ظروف مشابهة، فكلاهما توفيا في حادث، وكلاهما توفيا وهما في طريقهما لزيارة الأقارب، وأحدهما توفي يوم الجمعة والآخر ليلتها، وكلاهما توفي في أول يومٍ من عطلة نهاية السنة الميلادية.
كان قلبه على لسانه رحمه الله، لا يجامل أحدا مهما كان، يحب الخير ويسعى له بل ويؤثر على نفسه وهو أحوج، كنتُ قريبا منه جدا إلى درجة أن بعضهم يتعجب بحكم تمايز شخصياتنا وفارق السن بيننا، ولكنني أعرف سريرته النقية وقلبه الطيب وخصاله التي تجعلك تحترمه رغما عنك.
أخي فارقنا وقد ترك للمنتدى 34 موضوعا و 59 مساهمة، وكانت آخر زيارة له للمنتدى قبل شهر كامل من وفاته، بالرغم من قلة مشاركاته إلا أنه كان دائما يسألني عن جديد المنتدى ومسابقاته ومشاريعه وتطوره، كان دائما يسألني عن بعض الأمور التقنية المتعلقة به، لم يكن لديّ أدنى شك أنه أحبَّه وأحبَّ أعضاءَه وما ينشرونه من فوائد، واليوم إذ نفتقدك جميعا فلن نقول وداعا، ولكن سنقول: إلى لقاء قريب إن شاء الله في جنة الفردوس.
قبل رحيله رحمه الله قد ترك وصية ضمن توقيعه بالمنتدى، محتواها: "تذكرونا بخالص دعائكم" وما أرجوه منكم حقا ليس ردودا على هذا الموضوع بقدر ما أرجو دعاءً خالصا من وراء الشاشة لأخي عليه رحمة الله.
رحمك الله حيا ورحمك ميتا ورحمك يوم تبعث حيا، وجعل الله جميع حروفك التي كتبتها بالمنتدى صدقة جارية إلى يوم الدين.