استكشاف الثقافات لا يكون بعقول حاملة للسخافات !!!
في دولتنا مثلا .. أرض واحدة، شعب واحد وسلطة واحدة، رغم ذلك مازلنا نجد الذي يسخر من عادات منطقة زارها، ويطعن في تقاليد مدينة مكث بها، ويضحك على لهجة شخص تحدث معه، وينتقص من مظهر أشخاص التقى بهم. مثل هذه المواقف تعبر عن قِصرٍ في النّظر لقيمة استكشاف الثقافات والاستفادة من قيمها وسلوكياتها إيجابياً عن طريق التمعّن، التفكير والتحليل، فالمستقر في مجتمعه دون تجوال ولا ترحال يفتقر لفهم مجتمعات أخرى ما لم يشاركهم حياتهم و يتقاسم معهم جزء من الزمن لتجربة طريقة عيشهم، وهذا غير كافٍ من دون رصيد فكري معرفي يجعل الإنسان مؤهلاً ليتقبل اختلاف الآخرين معه ويحترم نمط تفكيرهم و مظاهرهم مهما رآها غريبة بالنسبة له، وهو ما نأمل توفّره في كل شخص يعيش عصرَنا هذا الذي تتوفر فيه كل وسائل الانفتاح على الثقافات نتيجة انتعاش التكنولوجيا في شتى المجالات.
كل ثقافة لها حقها في الاعتراف بها واحترامها، هذا عندما نتحدث عن مجموع القيم، العادات، المعتقدات والسلوكيات التي يمتثل لها مجتمع معين، في حين يوجد نوع آخر من الثقافة لابد أن تنبع من داخل كل إنسان، وقد عبّر عنها الروائي نجيب محفوظ في مقولته "الثقافة أن تعرف نفسك، أن تعرف الناس، أن تعرف الأشياء والعلاقات، ونتيجة لذلك ستحسن التصرف فيما يلمّ بك من أطوار الحياة". هذا هو النوع الذي نريده من الثقافة أن ينتشر في مجتمعنا الجزائري عموماً دون تخصيص جهة عن أخرى.
كثيرة هي الأقوال المتداولة عن عدّة مجتمعات ومدن، تتناقلها الألسن عبر الزمن وتترسخ في ذهن كل من يسمعها رغم أنها قد تكون خاطئة من الأساس وربما تغيرت الأوضاع فلم تعد منطبقة على الواقع المعاش، فلا يبذل المستمع أدنى جهد ليحاول التأكد مما سمعه و يبني أحكاماً على مجتمع لم يعرفه بعد، لذلك قيل "من علامات الحكمة أن يسافر الإنسان لكي يكتشف نفسه مثلما يكتشف غيره"، ثم هل يوجد ما هو أغرب من عدم الاعتراف بثقافة لها أوجه الشبه مع ثقافتنا الأصيلة أكثر من أوجه الاختلاف بكثير؟، أحيانا قد يكون الاختلاف في شيء واحد فنركز عليه ونهمل عدة نقاط تلاقٍ بيننا؛ قد نختلف في اللهجة أو اللون أو أصل النسب والعِرق من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، لكن ديننا واحد، لغتنا واحدة، هويتنا واحدة، جنسيتنا واحدة، يحكمنا دستور واحد وتجمعنا الكثير من الخصائص الثقافية الأخرى.
استفسار لابد أن نطرحه على أنفسنا: كيف نستطيع تقبل ثقافة مجتمع بأكملها إن لم نستطع تقبل شخص واحد يشاركنا حياتنا؟، والأمثلة متعددة على هذا الواقع المؤسف لأن فاقد الشيء لا يعطيه، من الطبيعي أن يرفض مجتمعنا شخصا غريباً فرضت عليه الظروف أن يعمل بيننا، و يرفض طالب علم شاءت الأقدار أن يدرس في جامعتنا، ويرفض امرأة جاءت من مجتمع آخر لتعيش في كنف زوج من عندنا، ويرفض مسؤولا تم تنصيبه ليتولى شؤوننا، بل ويرفض عابر سبيل لأنه فقط ليس جزءا منّا، هذا ما يجعلنا نفهم القصد من مقولة أوليفييه روي التي كان مضمونها: "إن الإيمان بلا ثقافة هو وجه لما يسمى بالتعصّب"، فكيف نستوعب تعصّبنا وعدم تقبلنا لغيرنا وهو مسلم ينتمي لوطننا أيضاً رغم أن الإسلام أكّد لنا أهمية التعرف على الشعوب والأمم حتى لو كان أفرادها يدينون بدين آخر فالله سبحانه و تعالى يقول في كتابه الكريم ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ من الآية 13 سورة الحجرات.
من بين التساؤلات التي تتبادر إلى أذهان العديد منا، ما هو الهدف من سعي السلطة لإنشاء مؤسسة جامعية في كل ولاية رغم أن الجامعات كانت تقدّم فرصة عظيمة للشباب بعد قدومهم من مناطق مختلفة ليتشاركوا خلال سنوات الدراسة حياتَهم بكل تفاصيلها مستفيدين انفتاحَهم على ثقافات أخرى، وبافتتاح مزيد من الجامعات سيزداد تكريس التعصب والجهوية والانغلاق حتى بدأت تظهر آثار ذلك على عدة مجالات، إذ تجد سكان مدينة يرفضون منح سكن أو وظيفة أو فرصة استثمار لشخص لا ينتمي إليهم لأنهم عاشوا منعزلين لفترة طويلة من الزمن، وفوق ذلك لم يتلقّوا معرفة بأهمية الانفتاح على الثقافات المحلية الأخرى والاندماج في ثقافة وطنية توحّد الجميع و تجعل الهدف الذي نطمح لتحقيقه هو إعلاء مكانة دولتنا بين باقي الدول بدل أن يكون هدفنا مقتصرا على إبراز حي بين أحياء المدينة أو تحقيق الشُّهرة لمدينة بين مدن أخرى. كل ما يدلّنا للانفتاح على غيرنا سيعطينا فرصة للمقارنة بين ثقافتنا وثقافة أخرى من أجل معرفة الجوانب الإيجابية والسلبية فنسعى لترسيخ الأولى وتغيير الثانية، وغالباً ما يرتبط هذا الانفتاح بطلب العلم وكسب الرزق فيعود على الإنسان بالمنفعة، كما أن الانفتاح لا يعني التبعية أو التقليد بقدر ما يدعو إلى الأخذ والعطاء فهذا هو الشرط الأهم لرقيّ الثقافات واندماجها بما يخدم الإنسانية.
نحن نعاني من إحدى مظاهر الأمية الثقافية التي يمكن اعتبارها سبباً من الأسباب المعيقة للتقدم والتنمية في بلدنا، حتى أصبحت حاجتنا لتنوير العقول أكثر من أي وقت مضى بسبب ما يتعرض له مستوى القيم من تدهور وتدنّي، فلم يعد للتعليم ذلك الأثر البارز على رفع المستوى الثقافي والحضاري للأشخاص، ولم نلتمس انعكاسا إيجيابيا لحركية السفر والسياحة الداخلية التي لا تنقطع على تقبّل الأفراد لبعضهم أيّا كانت مجتمعاتهم، فأغلب الناس يسافرون لقضاء مصالحهم فقط غير مكترثين بأن تزداد معرفتهم حول المدن و قاطنيها، وقد يقعون في الخطأ والحرج لأنهم لا يعرفون ثقافة المجتمع الذي ذهبوا إليه، ولا يعرفون الطريقة المناسبة للتعامل والتواصل مع أفراده، لذلك نحتاج إلى ما يُسفِر عن معادن الناس كما يكشف لنا عن زوايا جديدة في أنفسنا وفي وطننا بخوضنا لتجارب عديدة مختلفة ورؤيتنا مدى الاتفاق والاختلاف بين البشر.
الكاتب: عبد الرحمان قدي
المصدر: موقع أقواس نت