مدى تأثر العرب بالقرأن

: تأثر العرب بالقرآن (2)


بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين.
تحدثت في دروسي في الماضي عن إعجاز القرآن وكنت أركز أكثر كما يركز كثير من إخواني عن على موضوع الإعجاز العلمي في القرآن لكني عندما تأملت في بداية أمر الإسلام وجدت أن موضوع الإعجاز العلمي لم يكن هو صاحب الأثر الأكبر في نفوس المسلمين الأوائل والكفار الأوائل وإنما هو ذلك البيان الساحر ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن من البيان لسحرا" ولم أجد في البيان ولن يجد أحد في البيان أعظم من القرآن ومن هنا سميت هذا البرنامج سحر القرآن، ليس فيه من سحر البشر بل هو يناقض هذا السحر ويقضي عليه وإنما هو من سحر البيان الذي يسحر النفوس فتخضع لله رب العالمين.
في هذه الحلقة أكمل معكم كيف تأثر العرب بسحر القرآن اللغوي والبياني، حدثتكم في حلقة ماضية عن ماذا فعل الوليد بن المغيرة وكيف سحقه القرآن بهجاء عجيب واليوم أحدثكم بواحدة من أعظم القصص التي تدل على تأثر العرب بالقرآن الكريم سأبدأ بقصة عتبة بن ربيعة بعد قليل.
قبل أن يكون هناك إعجاز علمي وقبل أن يكون هناك إعجاز تشريعي، قبل أن ينزل التشريع أصلا والتشريع السياسي والاقتصادي والقضائي والعلاقات الدولية.. قبل كل هذا في بدايات البعثة النبوية وقعت مجموعة حوادث وقصص توضح أن التأثير الذي كان على العرب وقريش بالذات كان في نفوس سامعي القرآن.. كان بسبب القرآن باللغة والبيان والفصاحة، من هذه القصص قصة عتبة بن ربيعة، جلست قريش تدبر الرأي وتفكر وتتأمل في هذا الذي جاءها ففرق بين الولد وأبيه والمرأة وزوجها فأخذت قريش تفكر وتدبر الرأي في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخاضت ما جاء به من الهدى والبيان فقال عتبة بن ربيعة.. عتبة بن ربيعة سيد قريش هذا الذي له من الأولاد كل واحد منهم يعتبر سيد من السادة.. الوليد بن ربيعة، شيبة ابن إخوانه.. وبعدين أولاده كل واحد منهم له مكانته.. يعني من أسرة في منتهى العظمة كما يقولون.. فقال: أنا اتركوني أدبر لكم المسألة.. فقال: دعوني آتي محمدا وأعرض عليه أمورا لعله يقبلها فقالوا: افعل فذهب عتبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لقد جئت قومك.. جلس معاه.. قال: يا محمد لقد جئت قومك بما فرق جماعتهم وعبت آباءهم وأجدادهم وآلهتهم وأنا سأعرض عليك أمورا لعلك تقبلها أو بعضها وتكف عما يؤلم قومك ويفرق جماعتك فقال النبي صلى الله عليه وسلم بكل أدب.. شوف أدب الحوار وأدب الاستماع.. فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا الوليد قل اسمع، قال: يا محمد إن كنت تريد بما أتيت به المال جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد الشرف سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دون.. ما نتخذ أي قرار إذا ما أنت موافق عليه.. تصير سيدنا.. خلاص، شوف العروض.. هه، يعني من يريد أكثر من هذا المال؟ تكون أغنى واحد.. الشرف.. أنت تكون سيدنا ولا نتخذ قرار إلا بموافقتك، وإن كنت تريد نساء زوجناك أجمل نساء العرب وإن كان فيك مرض جئنا لك بالأطباء حتى نعالجك من أي مرض وإن كنت تريد غير ذلك فبينه لنا نعطك إياه، شوفوا النبي صلى الله عليه وسلم بكل أدب ما قاطع مثل بعض الناس اليوم.. أول ما تبدأ كلمتين: أنا فاهم كلامك، فاهم كلامك.. أنت تقصد كذا، النبي صلى الله عليه وسلم خلاه يقول إلى أن خلص فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أفرغت يا أبا الوليد؟ فقال: نعم، قال صلى الله عليه وسلم: فاسمع مني.. اسمع مني، فعتبة أبو الوليد هكذا في الوصف عشان أنا أريد أن أصف لكم المشهد كأنكم تعيشونه.. طبعا كانوا جالسين على الأرض.. يقولون: فألقى بيديه خلف ظهره، استند على يديه وبدأ ينصت، النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بأول سورة فصلت، اسمحوا لي أن اقرأ معكم بعض الآيات، طبعا لو قرأت كل الآيات اللي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم سيطول بنا الأمر، سأقرأ لكم بعض الآيات التي سمعها عتبة بن ربيعة، النبي صلى الله عليه وسلم ما خطب.. ما قال شيئا.. قال له: اسمع مني فسمع عتبة فقال صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم: {حم، تنزيل من الرحمن الرحيم} أنا أريدكم أن تتخيلوا معي.. عتبة جالس يسمع طبعا النبي صلى الله عليه وسلم كان من أجمل الناس في قراءته للقرآن الكريم.. {كتاب فصلت آياته قرآننا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر} قلوبنا في غطاء، ما يصل إليها شيء، آذاننا مسكرة {ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون قل إنما أنا بشر مثلكم} أنا لا أدعي أني إله {يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون} استمر النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة هذه الآيات.. فيها معان عجيبة جدا، قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم، أنا في تقديري يمكن قرأ عليه حوالي عشر دقائق، طبعا عتبة- أبو الوليد- مذهول.. مذهول مما يسمع، هذا الذهول الذي حدث لعتبة بالذات عندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى آيات معينة هو ما سأحدثكم عنه بعد الفاصل إن شاء الله.
نعود إلى قصتنا مع عتبة بن ربيعة الذي جلس بعد أن عرض العروض على النبي صلى الله عليه وسلم.. جلس.. الآن يستمع.. بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ عليه أوائل سورة فصلت، واستمر النبي صلى الله عليه وسلم في القراءة {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن} بدأ يتكلم عن خلق السماوات والأرض {فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم} ثم قال الله تعالى آية فيها إنذار هزت كيان عتبة.. يقول الله عز وجل.. أنا الآن أريدكم أن تتخيلوا المشهد.. النبي صلى الله عليه وسلم جالس يتلو الآيات.. عتبة جالس إيده لورا منصتا.. القرآن أخذ بكيانه.. طبعا قريش قاعدة تتفرج من بعيد.. يسمعون رجلان يتكلمان ينتظران.. قريش كلها تنتظر نتيجة هذا اللقاء، الكل واقف، فلما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فاهتز عتبة وقام من مكانه ووضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ناشدتك الله.. ناشدتك الله والرحم، اهتز الرجل، تنزل علينا صاعقة مثل عاد وثمود، طبعا تخيلوا أيضا مشهد قريش وهي تتفرج على عتبة.. يقوم من مكانه.. يرجف ويضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، عتبة طبعا انتبه إلى ما فعل فرجع مكانه وجلس جلسته وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أكمل، هو يعني كيف؟ أي شعر.. أي بيان.. أي نثر.. أي خطابة تؤثر في الإنسان هذا التأثير؟ هذا سيد قريش الذي جاء ناطقا رسميا باسم قريش يهتز هذا الاهتزاز! النبي صلى الله عليه وسلم بدأ يكمل الآيات {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون} يقول الله عز وجل: {فأما عاد فاستكبروا..} بدأ يصف قصة عاد إلى أن قال الله عز وجل يعطي نتائج كل قصة {فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} طبعا كلها إنذارات لقريش، الآن هذه القصص ليست عبثا، هذا كله بعد قوله تعالى.. إنذار مثل صاعقة عاد وثمود {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم


صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون} ثم بدأ الله سبحانه وتعالى يصف أهل النار: {ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون} يدفعون دفعا إليها، ويصف القرآن وصف أهل النار ثم ينتقل الحديث إلى أهل الجنة.. يقول الله سبحانه وتعالى: {ومن أحسن قولا من..} يقول الله عز وجل في الآيات التي قبلها قليلا {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة} الله هو وليك يا محمد، الله هو حبيبك ونصيرك، هذا معنى الولاية، الله هو ولي المؤمنين، لا تخافوا من طغاة ولا من أعداء الله، لا تخافوا.. {نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} واستمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى وصل إلى السجدة: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون} وهنا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وعتبة ينظر، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه وقال: هذا ما عندي، ماذا فعل عتبة بعد هذه الآيات المبهرات؟ بعد الفاصل نكمل قصة عتبة.
عتبة بن ربيعة سيد من سادات قريش.. فصيح معروف بفصاحته.. جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يعرض العروض.. أي عرض من هذه العروض سيكون أي عربي سعيد بهذا العرض.. يعطى من الأموال حتى يكون الأغنى، يعطى من المناصب حتى يكون المسيطر، يعطى النساء، يعطى العلاج، ماذا يريد؟ تحت أمرك، كانت يتوقع عتبة أن يسمع ردا على هذه العروض، والله لو زدتوا كذا لو فعلتوا كذا، هذا المتوقع، هو داخل بنية المفاوضات، الجواب آيات سورة فصلت، لم يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم كل السورة.. قرأ السورة إلى آية السجود، وسجد النبي صلى الله عليه وسلم، عتبة لما قام النبي صلى الله عليه وسلم قال: انتهيت؟ ماذا فعل عتبة؟ استغرب.. إيش هذا يعني؟ رد لم يتوقعه إطلاقا، لم يتوقع إطلاقا أن يكون الرد بهذه الصورة، لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم على أي عرض من العروض ولم يتكلم بكلام من عنده، كل الكلام كان آيات القرآن، عتبة قام من مكانه مشدوها، ما رد.. حتى ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: مع السلامة، قام مشدوها كالمسحور تماما "وإن من البيان لسحرا" وأي بيان أعظم من القرآن؟ وذهب إلى قومه وقال: خلو بينه وبين الناس.. انظروا القرار الذي خرج به عتبة.. اتركوا محمدا يدعو لدينه، خلو بينه وبين الناس.. فوالله- شوفوا الكلمة، انتبهوا معي ماذا يقول عتبة- فوالله ليكونن لقوله شأن، ما قال: ليكونن لمحمد شأن، هو الآن نسي محمدا ونسي البشر، هو يتكلم عن هذا الكلام اللي سمعه، هذا الكلام.. ماذا يقول عتبة؟ انتبهوا، هذا الفصيح العربي ماذا يقول؟ هذا القرآن سيسيطر على العرب.. سيسيطر على الناس، اتركوه، إذا سيطر فهو من قريش صاحبكم وإذا قتلوه تخلصتم منه، خلو بينه وبين الناس فوالله ليكونن لقوله شأن، أثر فيه القرآن، بلاغة القرآن بهرته تماما، خاف عتبة من التهديد والوعيد فأبو جهل طبعا العدو الأصيل لهذا قام وانتهره.. قال: يا أبا الوليد سنجمع لك مالا حتى لا تضطر أن تتبع محمدا فتكون معه ليعطيك، فهنا اهتز عتبة لأنه هو لا يريد أن يترك سيادة قومه ولا يريد لأحد أن يستهزئ به.. شوفوا سبحان الله.. أنا نظرت.. ده أبو جهل يعني في كل موقف.. ثلاثة من سادات قريش كادوا يسلمون سبب عدم إسلامهم أبو جهل (الوليد بن المغيرة - عتبة بن ربيعة - وأبي بن خلف) وعم النبي صلى الله عليه وسلم، كان أبو جهل هو السبب في منعه من قول: لا إله إلا الله، يعني جالس فقط عدو لهذه الدعوة، فهكذا يكون جلساء السوء عونا على الشر ومساندين للفجور واقفين في وجه الحق، واستمر عتبة على كفره وحرم من خير كثير وصل إليه.. ساقه الله سبحانه وتعالى إليه، لو اهتدى بالقرآن لصار سيدا من سادات الإسلام.. لخلده التاريخ.. سمع ما توحي به الآيات من حكم بالغة وتوجيه عال سليم لكنه من أجل الفخر وبسبب الحسد الذي أثاره أبو جهل لم يلتفت لهذه الآيات العظيمة التي نطق بها الفم الشريف.. فم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. نزلت على عتبة كقذائف البرق كالصواعق حتى اضطرته أن يهتز ويضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم، هزت كيانه حتى كاد يستجيب للحق، لكن طاعة أبي جهل قدمها على طاعة الله عز وجل فصار صريع الغرور وقتيل الكفر والإلحاد والباطل، إعجاز القرآن واضح في هذه السورة.. واضح في هذه الآيات.. واضح في تحطيم رؤوس الكفر ووقود الجحيم، آيات جحرت كفار قريش لكنهم أصروا على كفرهم.
هذه ليست القصص الوحيدة التي جرت في أوائل الدعوة، هناك قصص أخرى تدلنا على هذا الانبهار، أنا سأحدثكم في هذا البرنامج ليس فقط عن القصص.. أنا سأبدأ بهذه القصص ثم سأدخل في أعماق هذا البيان، لماذا كان هذا البيان؟ وما سر البيان فيه؟ وأنقل لكم من أهل البلاغة واللغة ما فيه ترطيب للقلوب وتفهيم للعقول عن عظمة الإعجاز البياني في القرآن، مزيد من القصص أولا إن شاء الله في حلقتنا القادمة ومنها قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقصص أخرى لسادة قريش ولليهود ثم بعد ذلك سأنتقل معكم إلى أعماق البيان والسحر الجمالي في بلاغة القرآن.
فإلى أن نلتقي أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركات

مشكور
تحيات عاشق عمانات