مشاركة
26/01/2001
الزبير مهداد-الجزائر
أكدت أبحاث عديد من العلماء على الأثر القوي للتعليم على الإنتاج وعلى التطور الاقتصادي والتقدم التقني، فخلف كل مظاهر التقدم التقني والاقتصادي تكمن جهود العلماء الباحثين في مختبراتهم. فمؤسسات البحث العلمي تلعب دورا مهما في تطوير الإنشاءات، وضمان نجاح التخطيطات الاقتصادية وتصحيحها وتقييمها. كما تؤدي البحوث إلى حدوث اكتشافات علمية تؤثر في طبيعة فهم الإنسان ونظرته إلى العالم وفي كشف مناطق جديدة من المعلومات والاحتمالات التطبيقية التي تتحول إلى وسائل وأدوات تكنولوجية للإنتاج والمواصلات وغيرها؛
فالبحث العلمي هو استنباط للمعرفة، وتطوير لمنتج، وتخلف البحث العلمي في القطاع الصناعي أو الاجتماعي أو غيره يحول دون تطوير هذه القطاعات والتغلب على مشاكلها؛ وبالتالي فإنه لا يمكن مع هذا التخلف تطوير تكنولوجيات أو تحسين مستويات هذه القطاعات ولا النهوض بها ولا إنتاج الثروات.
إن الاستقلالية التكنولوجية، وإخضاع هذه المعارف وتطويرها رهين بالبحث العلمي وسياسة واستثمار الموارد البشرية، والجامعات بما تضمه من مخابر البحث، وورش التجريب ومدرجات التدريس تعد من أهم وسائل إعداد الطاقة البشرية وصقلها، وتنمية مهاراتها بالعلم والمعرفة والتدريب.
يلاحظ بعض الباحثين أن جامعاتنا لا تقر سياسات البحث العلمي، ولا تحدد أهدافًا إستراتيجية على المدى القصير ولا على المدى الطويل ولا المتوسط، ولا تضم البرامج السنوية للجامعات برامج بحوث بالمفهوم العالمي إلا نادرا، وغالبا ما تكون مشاريع البحوث المنجزة من تلقاء مبادرة فردية أو مجموعات بحث صغيرة.
فهذه الجامعات لم تكن مجالا للبحث العلمي قط. فقد انهمكت بعد حصول بلداننا على الاستقلال في تكوين الأطر من أطباء وحقوقيين ومدرسين ورجال إدارة؛ ليحلوا محل الأطر الاستعمارية، واستمرت هذه الوضعية ردحا من الزمن، وبعد ذلك عند دخول هذه الدول فيما يسمى بالتقويم الهيكلي الاقتصادي الذي أملاه صندوق النقد الدولي، قلت الاعتمادات المالية والنفقات الاستثمارية في التعليم وفي سائر القطاعات. فبدأت ظاهرة بطالة الخريجين التي ما زلنا نعانيها: طوابير من المتعلمين والكفاءات معطلة عن الإنتاج، لا تتاح لها فرصة القيام بدور منتج، مشلولة مهمشة، رغم الحاجة الوطنية الملحة إلى المتعلمين كافة وفي سائر التخصصات.
عوائق في طريق العلماء
تعاني البلاد العربية نقصا في الموارد البشرية العاملة في حقل البحث العلمي فمعدل العلماء الباحثين ضعيف بالنسبة لعدد السكان، أقل من المعدلات العالمية التي قد تصل في البلاد المتقدمة إلى 3000 باحث لكل مليون من السكان. إضافة إلى ذلك عدم توفير شروط البحث العلمي منها:
غياب الحرية الأكاديمية وعدم تفرغ الباحثين. فالعلم لا يعبر عن نفسه بكل حرية. والقيود مفروضة على نشر المعلومات وتداولها، مما يحول دون إتاحتها للباحثين وعموم الناس. وهذا حال البلدان المتخلفة كلها، حيث نجد علماء ينتمون لمصالح الحكومات، ويتولون في غالب الأحوال مهام إدارية، وعلماء آخرون (خارج الدائرة) وهم كثيرون وأكثر نشاطا وإنتاجا، لا يستشارون في التخطيط لأية سياسة علمية أو اقتصادية أو اجتماعية، ولا يستفتون في القرارات الحكومية المتعلقة بالعلم ومجالاته وتطبيقاته. إن الحرية الأكاديمية يجب أن تتاح للمؤسسات العلمية وللعلماء؛ لأنهم يحتكمون على مقاييس للقيم، تحتم عليهم أن يكونوا قادرين على بلورة أفكارهم والالتزام بحدود أبحاثهم.
وطغيان السلوك الإداري البيروقراطي على أجهزة الإدارة المتحكمة في الجامعات ومرافقها ومخابرها، وشيوع سلوكيات غير أخلاقية بين أفراد الهيئة العلمية والقطاعات الممولة؛ يؤدي إلى انتشار الزبونية والانتهازية وعدم العدالة في تكليف الباحثين وتفرغهم وتمويل أبحاثهم. ؛ بالإضافة إلى تواضع العائد المالي للباحثين. مما يغري ويشجع الباحثين على الهجرة التي تؤدي إلى استنزاف الوطن العربي ومزيد تأخره. والضرورة التي تدعو إلى منح العلماء الحرية في اختيار ميادين بحوثهم، ترتبط بالدعوة إلى إتاحة الفرصة لهم لتحقيق مشاريعهم البحثية بتوفير الشروط المادية وتشريعات العمل التي تسمح لهم بالتفرغ طيلة مدة.
إجراء البحث
عزلة العلماء وغياب قنوات اتصال بينهم: فعلى مستوى المؤسسات يلاحظ بعض الباحثين أن نظام التعليم العالي بالمغرب يتوزع إلى جامعة ومدارس عليا ومعاهد تكون أطرًا تختلف في معاييرها التربوية ووسائلها وتدبيرها، أتت وضعية الشتات هذه ضمن إرث النظام عن فرنسا، فالمدارس العليا للمهندسين موروث عن فرنسا وباقي دول العالم المتقدم لا تعمل به، والمدارس العليا للأساتذة تعيش أزمة هوية، وكليات العلوم والتقنيات تتمتع بحق إعطاء شهادة مهندس؛ لكنها قد تحاول أن تتحول إلى مدرسة مهندسين، وتفرز كلية الطب أطرا يصعب عليها التواصل مع باحثي كلية العلوم، ولا يشارك المهندس مع الصيدلي في أمور كثيرة، أمثلة مثيرة عن صور الشتات، وغياب التواصل يعني غياب البرامج المشتركة والتعاون المثمر؛ بموازاة المؤسسات الجامعية هناك مراكز بحوث تابعة لبعض الوزارات، وترتبط بجهات مختلفة (جامعة، أو وزارة التعليم العالي، أو وزارة الفلاحة… إلخ) ويترتب على اختلاف الأنظمة وشتات بنيات البحث صعوبات كبرى في تواصل المراكز فيما بينها وبين الجامعات مما يؤدي إلى العزلة وإلى التبعية الفعلية للدولة التي استورد منها النظام لأول مرة .
ويزداد هذا العائق قوة بفعل قلة وسائل الاتصال بين العلماء والباحثين، ونقص تبادل المعلومات بسبب الافتقار إلى أنظمة تبادل المعلومات والنشرات المهنية والمجلات، وللعلم فإن التقدم العلمي يزدهر بالاتصال بين العلماء وذوي الاختصاص على جميع الأصعدة الإقليمية والوطنية والدولية والقارية؛ لمقارنة نتائج أبحاثهم ومناقشتها، والاطلاع على ما توصل إليه أندادهم، وهذا التقدم يعاق بسبب غياب أنظمة الاتصال بين العلماء، فلا تتاح لهم فرص إثراء بحوثهم وتنميتها وتعميق الخبرة، ويضاف إلى هذا العامل قلة فرص التدريب المتاحة لهم، وغياب حلقات التكوين المستمر ودوراته سواء داخل البلاد أو خارجها، بدعوى قلة الاعتمادات المالية المرصودة لهذا الجانب.
إن عزلة الباحث تعني ضعف إمكانية وصوله إلى مصادر المعلومات، وقلة فرص تعرف مجهودات غيره أو منجزات النمو العلمي ومستجداته، واعتماد اللغة الفرنسية في البحث وفي تدريس العلوم والتقنيات في المغرب يساهم في إبعاد الباحثين عن لغة النشر العلمي، ويؤدي إلى اختزال آفاقهم، كما يؤدي إلى رداءة تواصلهم مع عموم المواطنين وضعف اهتماماتهم بنشر الثقافة العلمية داخل النسيج الاجتماعي. إن القدرة على التواصل مع الآخرين توجد ضمن ما يتصدر مؤهلات الباحث العلمي في عصر الاتصال الذي دخلته البشرية ولا تزال تغوص فيه، ولا تقتصر مهارات التواصل على إتقان اللغة الأم والتمكن من لغة أجنبية فحسب، وإنما تمتد إلى تقنيات معالجة النص ومهارات التواصل بصفة عامة.
فالجامعة ليست مجرد مؤسسة للبحث العلمي وإعداد العلماء والتقنيين، فإنها إلى جانب ذلك مؤسسة ثقافية لها دور تثقيفي اجتماعي وطني، تساهم في بعث العلوم من رقادها وفي تثقيف المواطنين وتنشيطهم وحفزهم على الإبداع والتجديد والتأليف من خلال نشرها للأعمال الأدبية والعلمية، وتنظيمها للدورات التدريبية ومهرجانات الفنون والثقافة ومن خلال اتفاقيات الشراكة التي قد تربطها بهيئات المجتمع المدني، وفك العزلة عنها وإدماجها في النسيج الاجتماعي يعتبر من أول الأولويات.
عدم ارتباط النشاطات التعليمية والبحثية العربية ببرامج التنمية والإنتاج وضعف الإمكانات البحثية وعدم تكافؤ فرص وظروف البحث بين الجامعات، فبعض الجامعات تعاني من تخمة مالية بما يخصص لها من ميزانيات ضخمة لتسيير مرافقها وصيانتها، بينما تعاني جامعات في دول أخرى بؤسا ماليا وقلة في المخصصات، يحول دون مواكبة التطورات التقنية ودون تغطية نفقات أبسط البحوث، أو إصدار النشرات.
إن الإنتاجية العلمية والبحثية للجامعات ومعاهد البحث العربي أقل بكثير مما يمكن أن تقدمه بالقياس إلى الطاقات والكفاءات التي تملكها، ومقارنة الإنتاجية العلمية والبحثية العربية مع الإنتاج الإسرائيلي البحثي يثير القلق والأسى، برغم أن الفارق الكبير في الإمكانيات البشرية والمالية هو لصالح الأمة العربية، فإنتاج العلماء العرب مجتمعين في وقتنا الراهن يقل عن إنتاج الفئة نفسها في إسرائيل قبل عقود من الزمن، والأدهى من ذلك هو أن إنتاجية الباحث العربي تعادل 10 % ( من المعدل العادي لغيره من العلماء).
والأسوأ من ذلك أن البحث العلمي ينصبّ خاصة على القطاع الصناعي بالدرجة الأولى مهملا القطاع الزراعي والاجتماعي وغيرهما، وذلك في كثير من بلدان الوطن العربي، رغم أن المآسي الاجتماعية والكوارث الاقتصادية والهزات السياسية التي تعانيها هذه البلدان لها ارتباط وثيق بتخلف القطاع الزراعي وضعف مردوده وبتردي الأوضاع الاجتماعية وتفشي آفات الأمية والجهل والتطرف وقلة الطلب الاجتماعي على العلم وتردي أحوال الريف وتدني وضعية المرأة وانتشار الجريمة والمخدرات وغير ذلك من الآفات التي تحول دون تحقيق أي تنمية؛ وأكثر هذه الآفات مرتبط بتدهور وتخلف القطاع الزراعي الواسع الانتشار في بلداننا، فالتنمية الحقيقة هي التي تركز على تطوير وإنماء القطاع الزراعي ماديا وبشريا بتوجيه فائق العناية بالبوادي والقرى حيث يتواجد معظم السكان، وليس في خلق قطاع صناعي ضخم يكلف رساميل ضخمة وقد يصبح عبئا على موارد البلاد بسبب غياب الشروط والمعطيات.
إن عائد قوة العمل من خريجي النظام التعليمي محدود للغاية في النشاطات الزراعية. فالمشكلة تبقى في مدى الإسهام الحقيقي للإرشاد والبحوث في زيادة الإنتاج الزراعي بصورة عامة وتحسين أحوال البادية، ومدى تكلفة تعليم الخريجين في هذه المجالات، وتكلفة رواتبهم بعد التخرج بالنسبة للعائد الناتج عما ينشرونه من معرفة علمية، وما يساهمون به في حل المشكلات، ومن المعروف في بلداننا أن السواد الأعظم ممن يعملون في الزراعة من الأميين، والأميون يعيشون في عزلة وتهميش، يحرمون من امتلاك وسائل تحسين أوضاعهم المادية والاجتماعية ويعجزون عن تأمين الحد الأدنى من شروط الحياة؛ فأهم أسباب الرقي هو العناية بالإنسان وتكوينه بوصفه العنصر الذي يمتلك القدرات التي يمكن توظيفها في كل مناحي الحياة.
المعرفة قوة
يجب إذن عند التفكير في تطوير الجامعة والنهوض بالبحث العلمي الالتفات إلى الموارد البشرية الكثيرة كمًّا والقليلة نوعًا، وضمان الرفع من مستواها بتكوين أساسي شامل يجعل الناس قادرين على التفاعل والتواصل فيما بينهم ويزيد من قابليتهم على التعلم ويقوي الطلب الاجتماعي على العلم والتكنولوجيا والمعلومات، ويضمن خلق سوق لترويج المعلومات وضمان استهلاكها؛ ومما يساهم في تحقيق ذلك، تنظيم المعارض العلمية واللقاءات الدراسية المنفتحة على مكونات المجتمع وهيئاته وطبقاته، من جمعيات واتحادات ونقابات ونساء وشيوخ وغيرهم، وإحداث قنوات تلفزية تعنى ببث البرامج العلمية والأفلام الوثائقية والاستطلاعات، واعتماد اللغة العربية في تواصل العلماء والهيئات العلمية مع المواطنين، وفي نشر الأعمال والأبحاث، وإحداث المواقع العلمية العربية على شبكة الإنترنت، وغير ذلك كثير مما يمكن إحداثه، وإقرار برامج ومشاريع التعاون بين الجامعات ومراكز البحث العربية، وبين المؤسسات الإنتاجية وغيرها.
من موقع اسلام اون لاين -علوم وتكنولوجيا