بنات لا يتجاوزن سنّ الثامنة يرغمن عليه في المدارس والشوارعحجاب الصغيرات... مشاريع للعفة وأخرى للتطرفيكفي أن ترقب التلاميذ بعد نهاية الفصل وهم خارجون من المدارس حتى تشد انتباهك ظاهرة جديدة تطرق أبواب المدارس لا علاقة لها بالمنهج التربوي ولا بإصلاحات بن بوزيد ولا بتعليماته الأخيرة، بل بالبيوت المختبئة وراء كل تلميذة ونقصد المدرسة، إنها الخُمر التي صارت تغطي رؤوس فتيات التعليم الابتدائي من متمدرسات السنة الأولى والثانية اللاتي لا تتجاوز أعمارهن الثامنة، واللاتي يضعنها على طريقتهن الخاصة، تعكس كل واحدة منهن استخدام النموذج الذي قلّدته في الأسرة، ممّا يجعلنا نبحث في أسباب الظاهرة، وإلى أي مدى تعتبر صحية من جميع زواياها، خاصة الزاوية الدينية
أغلب الفتيات اللاتي تقرّبنا منهن صرّحن أنهن ارتدين هذا الزيّ اقتداء بالوالدة أو الشقيقة أو أيّ مقربة من العائلة. وعلى الرغم من أنهن غير ملزمات بارتدائه، إلا أن انبهارهنّ بهذا الزي لدى الكبار جعلهن يصررن على ارتدائه وهنّ لم يتجاوزن بعد السابعة والثامنة من العمر.
أمينة، من حي فايزي، ببرج الكيفان، تبلغ من العمر 11 سنة، ذكرت لنا أنها ارتدت الحجاب هاته السنة. لما سألناه إن كان ذلك بمحض إرادتها أم لا، قالت: "أمي أمرتني بلباسه لجمال شعري، فامتثلت لأمرها".
أسماء، من ذات البلدية، تدرس في الصف الثاني ابتدائي، يوم التقينا بها أجابتنا ببسمة عريضة "لقد ارتديت الحجاب اليوم"، وزميلتها في المدرسة سبقتها في أحد أحياء البلدية بخمارها الذي كاد يسقط على كتفيها، تلعب في الشارع غير مبالية إن دخلت في صفوف المحجبات أم لا، فكانت تدور حول الأعمدة الحديدية بالشارع غير عابئة بمن يلحظونها في مظهرها الجديد.
أما مريم وسارة، تلميذتان في الصف الخامس، بولاية بومرداس، فقد ارتدتا الحجاب لأن معلم المدرسة القرآنية التي كانتا ترتادانها كان يأمر الفتيات بأن يلتزمن الخمار حتى بعد الخروج من المدرسة، ووجدن أنفسهن ملزمات بهذا الزيّ دون أن تتكوّن لهن القناعة الكافية به وهنّ في الصف الرابع ابتدائي!
إحدى الصغيرات ممّن كانت تتبع والديها كانت تلبس جلبابا لفّها وانسدل على جزء من الأرض التي تحت قدميها الصغيرتين، ولم يوحِ برغبتها في لباسه، ولا يعقل أن فتاة في مثل سنّها تقتنع بشيء أو يعتدّ بقناعتها، كما يؤكد علماء النفس.
لكن لمياء البالغة من العمر 25 سنة مدرّسة في إحدى المدارس القرآنية بحسين داي بالعاصمة، كانت بمثابة النتيجة النهائية لما يمكن أن ينجرّ عن هذه الظاهرة مستقبلا، فهي ارتدت الحجاب وعمرها 5 سنوات تأثرا بمعلمتها التي كانت تعظهم كثيرا وتشرح لهم تعاليم الدين الإسلامي ووجدت نفسها منساقة إلى لباس معلمتها "لم أشعر يوما أنه عبء عليّ وعلى الرغم من أن عائلتي أمرتني بالتريث إلى غاية بلوغ سن معينة وارتدائه، إلا أنني أصررت على لباسه ولم أندم يوما على ذلك ولم أغيّر يوما منه شيئا" وتضيف لمياء: "لقد عشت عشرين سنة بهذا الزيّ وأنا فخورة أن جميع من رافقوني في طفولتي وأهل الحي لا يعرفون شيئا عن شكلي تحت الخمار". غير أن ظروف لمياء قد تختلف عن ظروف غيرها فضلا عن تغيّر الأجيال.
الدمية فلة وراء حجاب الصغيرات تراوح رأي الشارع الجزائري بين المؤيد والمعارض لهذه الظاهرة، حيث أجاب "سمير، 33 سنة" عن رأيه حول الظاهرة "إنها ظاهرة ايجابية جدا، وأنا أحيِّي من يُلبس ابنته الحجاب في قلب العاصمة في سنّ مبكرة، فهي في محيط قد يخشى أن لا تتقبل معه الحجاب لاحقا".
أما كريمة، 34 سنة، فقد عارضت رغبة ابنتها البالغة من العمر 7 سنوات في ارتداء الحجاب قائلة: "هي لا تعي قيمة هذا الزي وتعتقده نوعا من الألبسة يمكنها أن تنزعه متى شاءت، فلمّا تكبر وتعي ما تفعل لن أحرمها من ارتدائه، أما الآن فهي في سنّ يجب أن تلعب فيها وتحيا في كنف الطفولة".
نادية، 43 سنة، رأت الظاهرة من زاوية مغايرة "حرام عليهم، لمَ يجعلون فتيات صغيرات يرتدين هذا الزي، إنهن لا يدركن ما يقمن به، وعلى الأولياء أن يتّخذوا مسؤولياتهم في توجيه تصرفات بناتهم في هذه السّن إلى أن يستقيمن لاحقا".
عمي سعيد قال باستغراب: "قديما كانت السترة إلزاما للنساء لكن البنات الصغار غير مطالبات بها، لأن اللباس في حد ذاته كان يستر أغلب الجسد، ما إن تتزوّج الفتاة حتى تلتزم باللباس التقليدي من حايك أو ملاءة وغيرها. أما البنات الصغار فهن يعشن حياة البراءة بعيدا عن أي التزام".
رميسة، ذات الخامسة عشرة ربيعا، ذكرت لنا "لقد ارتدت شقيقتي الحجاب وهي متمدرسة في الصف الثالث ابتدائي، والسبب أنه رغبة في ارتداء لباس يماثل لباس الدمية "فلة" ولم تعارض أمي ذلك وهي الآن تلبسه كيفما اتفق وهي معذورة لأنها لا تدرك قيمته".
خبراء نفسانيون: إلزام الطفلة بالحجاب قد يخلق لها صراعا نفسيا قالت المختصة في علم النفس السيدة مريم معروف، إن الخمار ليس غريبا على مجتمعنا، وأن ارتداء الفتيات للحجاب لا يعكس قناعاتهن، بل يعكس قناعة الأسرة، مضيفة أن الظاهرة لا تشكل خطرا على الصعيد النفسي للطفلة، إلا إذا كان ارتداؤه بطريقة قسرية، حيث يخلق صراعا نفسيا بين الفتاة ونظيراتها بعد تبلور قناعتها في سنّ متقدمة.
وأضافت المختصة معروف مريم، في اتصال مع الشروق اليومي، "في مرحلة الطفولة لا يوجد تقليد بل من خلال قناعات الوالدين تتولد التصرفات عند الصغار، فما يقوم به الأب والأم والمحيط الأسري لإقناع الطفل به من خلال النصح والتكرار، يتصرف الطفل على هذا الأساس"، مبعدة افتراضية التقليد في ارتداء الفتيات لزيّ الحجاب داخل المجتمع الجزائري.
وحدّدت المتحدثة موضع الضرر في هذه الظاهرة قائلة: "فبعد أن تلبس الطفلة هذا الزّى تبدأ تتساءل لماذا لبسته ويراودها هذا التساؤل سنوات بعد ذلك، خاصة وهي في وسط يمكن أن تقارن فيها نفسها مع أترابها وهذا ما يدخلها فعلا في صراع نفسي".
ونصحت المختصة "أنه إذا كان ولابد من أن تلبس الفتاة هذا اللباس فيجب أولا أن نقنعها به وأن نفهمها كل أبعاد إقدامها على الالتزام به وإلا سنقع في هذا المحظور من صراع قد ينفجر بتصرفات غير مسؤولة".
ولم تتخوّف المختصة من انتشار الظاهرة، على اعتبار أن الخمار يعدّ جزءا من موروثنا الحضاري الجزائري وأن الأسرة الجزائرية جبلت على السترة من الأم إلى الجدة.
خبراء الاجتماع: الظاهرة رد فعل لمواجهة العولمة يرى المتخصص في علم الاجتماع، الدكتور عمر أوذايذية، أنه يجب النظر إلى ظاهرة صدام الحضارات في مظاهرها الاجتماعية والسياسية، وهذا الصراع الذي تحاول القوى الكبرى إعطاءه اتجاها وحيدا في إطار ما يسمى بالعولمة، وتحاول كل الثقافات المهيمنة عليها أن تظهر تميّزها ومقاومتها لظاهرة العولمة من خلال عدّة أشكال وأنماط ثقافية.
وصنّف الدكتور أوذايذية، في اتصال هاتفي مع الشروق اليومي، ظاهرة ارتداء الحجاب في سن مبكرة كمظهر للتميّز أكثر منه مظهرا للتقليد الاجتماعي للكبار، ويضيف "باعتبار أن المدرسة هي المجال الرئيسي في المجتمع المعاصر لصناعة الوعي من خلال التنشئة الاجتماعية والتربية المدنية والإسلامية بحسب المقررات الرسمية، فإنها تهتم بالجوانب الجوهرية التشكيلية في آن واحد" .
وعاد الدكتور إلى التميّز في الحضارة الإسلامية بالقول "إنها كباقي الحضارات لها ميزاتها الثقافية والاجتماعية والأسرية، من بينها الحجاب الذي يميّز المسلمات من حيث المظهر، النمط الثقافي وجانبه الانفعالي وقيمه العامة".
وعن المخاطر التي يمكن أن تشكلها هذه الظاهرة، قال الدكتور "انتشار هذه الظاهرة لا يشكل في حدّ ذاته خطرا وإنما ما تحمله من قيم مناهضة لطبيعة الحياة الاجتماعية ومن ورائها تقسيم المجتمع إلى فئتين، فئة متفتحة على ثقافات العصر وفئات أخرى منعزلة عن قيم العصر ومتطلباته، مما قد يحدث في الآماد المتوسطة صراعات قد تأخذ أبعادا حسب الظروف السائدة في المجتمع من وجود السلطة، الآداب العامة، ووجود نمط اجتماعي يكون الدليل العام لمسيرة المجتمع".
ولم يغفل المختص في علم الاجتماع المرحلة التي مرت بها الجزائر قبل ثلاثين سنة والمتعلقة بالصحوة الإسلامية، وكيف أنها جعلت الجزائر هدفا لبقية المجتمعات القوية للنيل منها "في الثمانينيات تمّ تلغيم الصحوة الإسلامية الحقة من القوى العظمى التي كانت تشكل خطرا عليها، وعملت حول موضوع البدائل الحضارية قبل انهيار المعسكر الشيوعي وقبل ظهور نظرية تصادم الحضارات".
وألقى الدكتور بنظرة إلى مستقبل هذه الظاهرة وأبعادها الاجتماعية قائلا: "ستعزّز الإحساس بالفوارق الاجتماعية وتقسم المجتمع إلى فئتين وهذا ما سيخلق صراعا اجتماعيا أسسه عقائدية أكثر منها مادية".
وأشار في النهاية، إلى أن الظاهرة لا توجد في الجزائر وحسب، بل امتدت إلى بقية الدول العربية مثل الأردن التي تفشت فيها الظاهرة بين الطبقتين الثرية والفقيرة.
الشريعة ترحّب بتعويد الفتيات على الحجاب وترفض الإجبار تقارب رأيا الشيخ أبوعبد السلام والدكتور كمال بوزيدي في قضية ارتداء الفتيات الصغيرات للحجاب، ولم يجدا من حرج في أن ترتديه الفتاة غير البالغة، طالما أنها أرادت ذلك، حتى وإن كانت لا تعقل ما تفعله، ورأى كلا منهما أن هذا يدخل في نطاق الترويض المستحب والذي دعت إليه السنّة الشريفة من خلال قوله صلى الله عليه وسلّم "مُرُوا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرّقوا بينهم في المضاجع".
وقال الشيخ إن هذا يدخل في إطار التعويد مثلما هو الشأن بالنسبة إلى الصلاة والصيام وغيرها، وأضاف الشيخ أن هذا التعويد حتى وإن كان ليس مشابها للصوم والصلاة، إلا أن هذا جزء من التدين وليس كل التدين، فاللباس المحتشم جزء من التدين ويجب الإلتزام، وحرص كلاهما على النهي عن إجبار الأهل لبناتهم غير البالغات على ارتداء الحجاب، ولكن لا ضير في أن يحثوهم على التزام اللباس المحتشم.
وعن مدى استيعاب الفتيات لهذا اللباس ومدى الاعتماد على قناعتهن أو رغبتهن في الارتداء، ذكر الشيخان أنه لا يترتب عليه أي ضرر، بل بالعكس أنه أمر يساعد على نشر الفضيلة ويجب النزول عند رغبتهن دون منعهن من ذلك.
أما الدكتور كمال بوزيدي، فقد عرّج إلى نقطة ترتبط بالأعراف والسنّ المتعارف عليها لارتداء الحجاب لدى الفتيات في القرى الصغيرة والمداشر، وذلك وفقا لبنية الفتاة أو ما هو متعارف عليه في المنطقة، إذ لا يخضع ارتداء الحجاب إلى سنّ الوجوب بل إلى العادات والتقاليد في المنطقة، حيث ترى بعض العائلات أن بلوغ الفتاة سنّا معينة هو الدافع لإلباسها الحجاب، ويخشون على بناتهم من مختلف الاعتداءات والأذى، خاصة إذا كانت الفتاة فائقة الجمال أو يعكس جسمها سنّا توافق سنها.
وعن السن التي يتاح فيها تعويد البنت على اللباس الشرعي، قال الدكتور بوزيدي هو سن العاشرة قياسا على سن الصلاة، سواء كان ذلك داخل المنزل أو خارجه، مفيدا أنه لا يجب على الأولياء إجبار البنات على لباسه إن هنّ رغبن عن ذلك.
الشروق: 2010/02/18.