من أخطاء ابن هشام في المغني
من أمثلة تثنية اسم الجمع : قومان .قال الفرزدق :
وكلُّ رفيقَيْ كلِّ رحْـلٍ و إِن هما تَعاطىَ القنا قوماَهُما أخوَانِ .
و استشهد به ابن عصفور( في شرح الجمل الكبير) على تثنية قوم .
و كذا ابن مالك ( في شرح التسهيل ) . فقوماهما فاعل تعاطى ، و حذف نون التثنية للإضافة إلى هما .
و فيه شاهد أيضا على تثنية المضاف إلى اثنين المرجوحة ، فيكون من قبيل :
* ظهراهُما مثلُ ظهورِ التُّرسين *
و معنى البيت أن كل رفيقين في السفر أخوان و إن تعادى قوماهما و تعاطََوُا
المطاعنة بالقنا . و رحلُ الشخص : مأواه في الحضَـر ، ثم أُطلق على أمتعة
المسافر ، لأنها هناك مأواه .
و هذا البيت مع وضوح معناه قد حرَّفه أبو علىّ الفارسي ( في المسائل
البغداديات ) بتنوين قوم ، و زعم أنه مفرد منصوب ، فاختل َّعليه معنى
البيت و إعرابه ، فاحتاج إلى أن صَحَّحَه بتعسُّـفات و تمحُّلات كان غنياً
عنها ، و مقامه أعلى و أجل من أن ينسب إليه مثل هذا التحريف ، و لكن هو
كما قيل :
* كفى المرءَ نبلاً أًن تعـد معايبُه .*
و قد تبعه على هذا التحريف و التخريج ابن هشام (في مغني اللبيب ) و لخَّص
كلامه من غير أن يعزوه إليه . و أنقل لك كلامهما حتى لا تقضيَ العجبَ
منهما .
قال أبو على ّ(في البغداديات) : ينشد بيت الفرزدق و هو :
و كل رفيقي كل رحل ...................... البيت .
و فيه غير شيء من العربية .فمنه : قال تعاطى و قد تقدمه اثنان و لم يقل
تعاطيا . فإن قلت : إنه حذف لام الفعل من تعاطى لالتقاء الساكنين و لم
يرده إلى أصله للضرورة فيقول تعاطيا ، فهو قول . و هذه الضرورة عكسُ ما في
قول امرئ القيس :
• لها متنتان خظاتا *
لأن هذا البيت اللام في موضع و جب حذفها ، مثل رمَتَا ، لأن الحركة للتاء
في رمتا غير لازمة ، و الفرزدق حذفه في موضع و جب إثباته ، لأنك تقول
تعاطيا و تراميا . و إن قلت تعاطى تفاعلَ ، و الألف لام الفعل ليست بضميره
،و في الفعل ضميرُ واحدٍ و إن كان في اللفظ مُثنى ، فهو في المعنى كناية
عن كثرة ، و ليس المراد بالتثنية هنا اثنين فيحمل الكلام عليها ، و لكنه
في المعنى يرجع إلى كل ، فحملت الضمير على كل ، فهو قول . و يقوي هذا : {
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } .ألا ترى أن الطائفتين لما كانتا في
المعنى جمعا لم يرجع الضمير إليهما مثنى لكنه جمع على المعنى . وكذلك
تعاطى ، أفرد على المعنى إذ كان لكل ، ثم حمل بعد الكلام على المعنى فقال
: هما أخوان . فالقول في هما أنه مبتدأ في موضع خبر الابتداء الأول وهو كل
، وثناه وإن كان في المعنى جمعا للدلالة المتقدمة أن المراد بهذه التثنية
الجمع . ألا ترى أن قوله كل رفيقي كل رحل ، جمع ؟! و نظيره قوله { بينهما}
بعد : { و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } .
فإن قال قائل : إنَّ هما يرجع إلى رفيقين على قياس قولهم في قوله تعالى :
{و الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن } فهو عندنا مخطئ ، لأن الاسم
الأول يبقى متعلقا بغير شيء . و هذا القول ينتقض في قول من يقول به ، لأنه
عندهم يرتفع بالثاني ، أو بالراجع إليه ، فإن لم يكن له ثان كان إياه في
المعنى و لم يعد إليه شيء ، وجب أن لا يجوز ارتفاعه به عندهم . و الجملة
التي هي هما أخوان رفعٌ خبر لكل . و لا أستحسن أن يكون هما فصلا لو كان
المبتدأ والخبر معرفتين ، لأني وجدت علامة ضمير الاثنين يُعنى به الجمع في
البيت و الآية ، و في قول الآخر :
إن المنية و الحتوف كلاهما يُوفي المخارمَ يرقُبان سَوادي .
و قوله : { أن السموات و الأرض كانتا رتقا ففتقناهما } ، و نحو هذا . و لم
أجد الاثنين المظهرين يُعنى بهما الجمع و الكثرة .فإن كان كذلك جعلت هما
مبتدأ و جعلت أخوان خبره ،و حملته على لفظ هما دون معناه . و لو جعلت هما
فصلا و كان الاسمان معرفتين و ما قرب منهما ، و جعلت أخوان خبر كل لم
يمتنع ، لأن الاثنين المظهرين قد عني بهما الكثرة أيضا .ألا ترى أن في نفس
هذا البيـت : و كل رفيقي كل رحل ، و ليس الرفيقان باثنين فقط ، و إنما
يراد بهما الكثرة . فكذلك يراد بأَخَوَان الكثرة . إلا أن قوله ’’ و كل
رفيقي ‘‘ في الحمل على الجمع أحسن من حمل أخوان على الجمع ، لأن المعنى في
قوله : و كل رفيقي كل رحل : كل الرفقاء ، إذ كانوا رفيقين رفيقين فهما
أخوان و إن تعاطى كل واحد مغالبة الآخر ، لاجتماعهما في السَّفرة و الصحبة
. فالقول الأول في هذا هو الوجه . ومثل هذا قولهم : هذان خير اثنين في
الناس ، و هذان أفضل اثنين في العلماء .فيدلك على أن الاثنين في قولنا :
هذان خير اثنين في الناس ، و الرفيقين في هذا البيت ، ما يذهب إليه سيبويه
، من أن المعنى : إذا كان الناس اثنين اثنين فهذا أفضلهم ، و إضافة رفيقين
في هذا البيت إلى كل رحل ، لو كان المراد بهما اثنين فقط لكانت هذه
الإضافة مستحيلة ، لأن رفيقين اثنين لا يكونان لكل رحل . ففي هذا البيت
دليل على أن رفيقين يراد بهما الكثرة . و فيه أنه حمل هما على معنى كل ، و
فيه الوجهان اللذان حمَّلناهما تعاطى .
فأما قوله قوماً فيحتمل ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون بدلا من القنا ، لأن
قومهما من سببهما و ما يتعلق بهما . و يحتمل أن يكون مفعولا له ، و كأنه
قال : و إن هما تعاطيا القنا للمقاومة ، أي لمقاومة كل واحد منهما صاحبه و
مغالبتِه . و يحتمل أن يكون مصدرا من باب { صنع الله } و{ وعد الله} لأن
تعاطى القنا يدل على مقاومة. فتحمل قوما على هذا كما حملت {وعد الله } على
ما تقدم في الكلام ، مما فيه وعد . هذا آخر كلامه .
و قال ابن هشام (في المغنى ) :: هذا البيت من المشكلات لفظا ، و إعرابا ، و معنى ، فلنشرحه .
قوله : كل رحل ، كل هذه زائدة ، و عكسه حذفها في : { على كل قلب متكبر }
فيمن أضاف . وتعاطى : أصله تعاطيا ، فحذفت لامه للضرورة . و عكسه إثبات
اللام للضرورة فيمن قال :
• لها مَتْنتَانِ خظاتا *
إذا قيل إن خظاتا فعل و فاعل ، أو ألف تعاطى لام الفعل ، ووحَّد الضمير
لأن الرفيقين ليسا باثنين معينين ، بل هما كثير ، كقوله تعالى : { و إن
طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } ، ثم حمل على اللفظ ؛ إذ قال : هما أخوان ،
كما قيل : {فأصلحوا بينهما } . و جملة هما أخوان خبر كل . و قوله : قوماً
إما بدل من القنا لأن قومهما من سببهما إذ معناه تقاوُمُهما ، فحذفت
الزوائد ، فهو بدل اشتمال . و إما مفعول لأجله ، أي تعاطيا القنا لمقاومة
كل منهما للآخر ، أو مفعول مطلق من باب { صنع الله} لأن تعاطي القنا يدل
على تقاومهما .
و معنى البيت : أن كل الرفقاء في السفر ، إذا اسْتُقْرُوا رفيقين رفيقين
فهما كالأخوين ، لاجتماعهما في السفر و الصحبة ، و إن تعاطى كل منهما
مغالبة الآخر .انتهى كلامه .
و هذا كله كما ترى فاسد لفساد أساسه . و قد تنبه له الدماميني ( في
الحاشية الهندية ) إلا أنه لم يقف على كلام أبي علي ، و قال : أطال المصنف
، يعني ابن هشام ، في تقرير ما يزيل الإشكال الذي ادعاه ، و كله مبني على
حرف واحد ، و هو ثبوت تنوين قوما من جهة الرواية ، و لعلها ليست كذلك . و
إنما هي ’’ قوماهما ‘‘ تثنية قوم ، و المثنى مضاف إلى ضمير الرفيقين . ولا
إشكال حينئذ لا لفظا ، و لا إعرابا ، و لا معنى . و قد رأيت في نسخة (من
ديوان الفرزدق ) هذا البيت مضبوط الميم من ’’ قوماهما ‘‘ بفتحة واحدة ، و
ملكت هذه النسخة في جِلدين . و ضبط هذا البيت هو الذي كان باعثا على
شرائها . و لله الحمد و المنة . انتهى .
خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب . عبد القادر البغدادي ( 1030 ـ 1093 هـ ) . 7 / 572 ـ 577 .
ون . مغني اللبيب عن كتب الأعاريب . لابن هشام الأنصاري ( 761 هـ ) . ص : 259 ـ
منقووول