في قلب أدرار
بقلم: أ. د. أبو القاسم سعد الله
كانت هي زيارتي الأولى لتوات، ولكن اسمها لم يكن جديدا ولا غريبا عن ذهني واهتمامي. فمنذ كنت طالبا في جامع الزيتونة كان اسم توات والتواتيين رائجا في تونس، فكنت أراهم قوما سمر الوجوه بيض اللباس هادئي الطبع كاتمين لأسرار حياتهم، ولكني لم أكن أدري لماذا كانوا في تونس.
قرأت عن طلائع العثمانيين في الجزائر وجدت اسم الشيخ محمد التواتي في بجاية يرحب بهم ويحميهم ببركته الصوفية. وكان أحد شيوخ عبد الكريم الفكون القسنطيني في القرن السابع عشر يدعى محمد التواتي.
أما في عصرنا فقد عرفت عن تاريخ توات وعلمائها عندما أشرفت على أحد الطلاب (وهو الأستاذ فرج محموج فرج المصري) في دكتوراه الحلقة الثالثة عن إقليم توات في القرنين 18 و19، ثم أضاف إلى ذلك تحقيق كتيب صغير الحجم كثير الفائدة عنوانه البسيط في أخبار تمنطيط (توات) لابن بابا حيدة. وكان عمله يشمل أيضا تراجم بعض العلماء والشعراء والفقهاء والمتصوفة.
مراسلات مع جامعة أدرار
وفي هذا الربيع هاتفني الدكتور عبد الكريم بوصفصاف رئيس المجلس العلمي بجامعة أدرار مقترحا علي إلقاء محاضرات على طلبة الماجستير وإثراء تحصيلهم العلمي. وعندما تم الاتفاق وحان وقت السفر ذهبت إلى الخطوط الجزائرية لتأكيد الحجز قالت لي ممثلتها إن الطائرة كاملة العدد ولا مكان لي فيها، ثم إنه من غير المؤكد أن تطير الطائرة في وقتها لوجود عاصفة رملية فوق أدرار. وتحت إلحاحي قالت الممثلة: عليك أن تأتي إلى المطار مبكرا لوضع اسمك في قائمة الانتظار. وقبل الوقت المقترح تقدمت إلى المكتب وسألت فقالوا: "الطائرة راحت"! فاستغربت واحتججت بما قيل لي سابقا، فنظر الموظفون إلى بعضهم البعض ثم إلى الحاسوب، وفي حركة غير منتظرة وقف أحدهم وطلب مني، وهو يتحفز للهرولة، أن أصطحبه بسرعة، فجرينا لا نلوي على شيء، وعبرنا جميع الحواجز الأمنية دون توقف إلى أن وصلنا إلى بوابة الحافلة التي ستأخذ المسافرين إلى الطائرة. فكنت آخر من صعدها وأنا ألهث وأكتم غيظي، وكان الركاب ينظرون إلي وكأنني أنا سبب تعطيلهم عن السفر.
ولما استقر كل مسافر في مكانه نظرت في جوف الطائرة فإذا حوالي ثلثها فارغ، فقلت سبحان الله هذه شركة تصدق عليها الآية "يخربون بيوتهم بأيديهم". ذلك أنني لم أعرف شركة طيران -على كثرة أسفاري- تعمل ضد نفسها كما تفعل شركتنا الموقرة، لأن ما حدث لي هذه المرة حدث كثيرا مثله لي ولغيري في الماضي وفي كل الاتجاهات، فهم يعلنون للزبائن أن الطائرة ممتلئة وعندما يركب الراكب يجد فيها أماكن كثيرة شاغرة.
الهبوط في تيميمون
وكان المفروض أن نسافر مباشرة إلى مطار أدرار لكن الإصلاحات التي تجري فيه جعلتنا نهبط في مطار تيميمون الذي يبعد عن مقر الولاية حوالي 200 كلم. أرسلت الجامعة لي سيارة لتكمل بي المشوار. كانت الساعة تشير إلى السابعة مساء عند نزول الطائرة. ومن الذين تعرفت عليهم عند هبوطها الدكتور محمد المنوفي الذي يدرس الأدب في جامعة الجزائر، وأصله من أقبلي أو من أولف. وهو أديب خفيف الروح حلو الدعابة كثير الحفظ، وقد جاء ليلقي محاضرة عن الشيخ محمد باي بلعاليا، من كبار علماء المنطقة وقد توفي حديثا.
انطلقت السيارة بي إلى أدرار في طريق معبد ما تزال تعبره موجات من الرمال الحمراء التي تذروها الرياح الساخنة القوية. وقد قيل لنا إن عاصفة رملية كادت تمنع الطائرة من الهبوط. بعد قليل سقط الليل ولكن أضواء القصور (القرى) لا تكاد تنطفئ أو تنقطع، هناك سيارات ومجمعات سكنية وبعض المصانع... وخلال حوالي ساعتين اقتربنا من أدرار، وكان السائق ماهرا والسير سريعا لا يخفف منه سوى حواجز الدرك من وقت لآخر عند مفترق الطرقات.
قبل دخول مدينة أدرار أراني السائق المصنع الصيني الذي لا يبعد كثيرا عن الطريق، وهو يشكل معلما في ليل الصحراء المخيف، إنه مصنع بترولي ضخم متلألئ الأنوار، قال لي السائق وأكده آخرون إن الصين بنته منذ حين وهي تديره لحسابها ولا تشرك معها فيه الجزائر إلا بــ 30٪. وبعد خمسة وعشرين سنة سيصبح المصنع ملكا للجزائر.
سيدي السبع
وعلى مشارف مدينة أدرار رأينا أفواجا من الناس راكبين وراجلين يمشون في اتجاهات مختلفة -ونحن ما نزال على أبواب المدينة وفي جوف الليل-، وقد قال لي السائق إن هؤلاء يشتركون في وعدة (زردة) السباعي، وهي عادة سنوية يحتفلون فيها بتقديم النذور ونحوها إلى الشيخ الصالح المعروف عندهم بالسباعي أو السبع، وهو رجل درويش بعيد عن التصوف والعلم، وفي هذه المناسبة يطبخ أهل كل منزل أكلا كثيرا يأكل الناس منه بحرية ثم يغادرون بدون حرج ولا تكلف، فالمنازل هذه الليلة مفتوحة للجميع. وهناك أساطير أخرى تدور حول اسم السبع أو السابع (الأسبوع) أو السباعي ليس هنا محل تفصيلها. وأثناء الطريق تلقيت عدة هواتف للاطمئنان من الأمين العام للجامعة السيد عبد الله مولاي زروق، والأستاذين محمد حوتية وعبد الكريم بوصفصاف وغيرهم.
فندق توات
وصلنا مدينة أدرار الساعة العاشرة وأنزلوني في (فندق توات) حيث وضعت حقيبتي في غرفة 110، والفندق ـ مثل كل الكائنات ـ كان وجيها وجميلا ولكنه أصبح دميما وفي حاجة إلى ترميم سريع، وقد قيل إنه حاليا يعمل برعاية شركة من شركات الفندقة الجزائرية بالعاصمة. فهو -رغم موقعه وسط المدينة وعلى حافة ساحة الشهداء الواسعة وفي مفترق الطرقات الرئيسية- ترى فيه علامات الهرم والبلى: من رشح الحنفيات وظهور الصدأ على كل ما هو حديد ومشاركة الصراصير والغبار للزبائن في الغرف ورثة الفرش. ورغم ذلك فإن هندسته جميلة تجعل منه نموذجا للبيئة الصحراوية، ففيه أشجار نخيل كثيف يمتص الغبار ويلقي بظلاله الوارفة على الأرض، وفيه حوض سباحة يجعل العصافير تحدث ضجيجا في الصباح وفي المساء.
وطلاء الفندق من الخارج، مثل ألوان مدينة أدرار، ذو ألوان زاهية أرجوانية أو قرمزية، وهو طلاء يكسر حدة الشمس الباهرة. وعندما وصلنا كانت درجة الحرارة لا تتجاوز الثلاثين فالجو ربيعي ممتاز، رغم أن شهري أبريل ومايو من شهور تغيير الموسم حيث تكثر العواصف الرملية وتشتد حرارة الشمس.
موسيقى القرقابو في ساحة الشهداء
عندما اقتربنا من الساحة الواسعة وسط أدرار وجدناها مضيئة والناس يطوفون فيها زرافات ووحدانا. قال لي السائق هذه هي (لابلاص)، ولما استغربت من الاسم قال إن الساحة ترجع إلى زمن الفرنسيين الذين أطلقوا عليها أيضا اسم (لابيرين) وهو اسم أحد ضابطهم الذين توغلوا في الصحراء ناشرين فيها ألوية الاستعمار. وكانت الساحة غاصة بالغادين والرائحين والباعة المتجولين وفرق (القرقابو) التي تخشخش بآلاتها الحديدية فتحدث نشاطا في المتفرجين والعابرين، وكانت الفرق تطلق البارود في الهواء من حين لآخر، وكانت تستمر في قربعة موسيقاها الرتيبة إلى ما بعد منتصف الليل.
وفي الساحة كنت ترى الوجوه السمراء والسوداء والبيضاء، ومعظم أصحابها كانوا باللباس الأبيض الشائع في أدرار وهو القندورة (القميص) المستطيلة والعمامة الكبيرة والصندل، بينما تراهم في النهار بلباس العمل المعتاد في الشمال في أغلب الأحيان. والساحة خليط من نوع آخر فهي مجمع للعائلات والأطفال والفتيات والفتيان. إنها ساحة تمثل مدينة (كوزمو-بوليتانية)، ويظهر أنها تعيش في أمن وأمان. وإذا نظرت إلى نفس الساحة صباحا تجدها خاوية على عروشها لا يقطعها إلا تلاميذ المدارس والموظفون.
في الجامعة الإفريقية
في صباح اليوم الأول أخذوني إلى الجامعة حيث قسم التاريخ فالتقيت في إحدى القاعات المريحة عددا من طلاب الماجستير وغيرهم فكانوا مشتاقين إلى العلم ومتطلعين إلى أجوبتي عن أسئلتهم في أمور تخص أبحاثهم، وفي كل يوم كان ينضم إليهم عدد آخر من زملائهم حتى توسعت الحلقة، لأنني قلت لهم -بعد استشارتي- إن كل من يرغب في الحضور فهو حر ومرحب به.
وبعد المحاضرة أخذني الأستاذان محمد دبوب رئيس قسم التاريخ ومحمد حوتية، وكلاهما من طلبتي القدماء، لأداء زيارة مجاملة للسيد أمين عام الجامعة وهو زروقي مولاي عبد الله. شاب حيوي وذكي وعامل. قال إنه كان يتطلع إلى لقائي والحديث معي، فشكرته على إعداد لقائي مع الطلبة والأساتذة. ورغم إحضار القهوة والشاي فقد اعتذرت بحميتي، وقد وجدت معه الأستاذ محمد المنوفي سابق الذكر.
نظام الفقارة وجامع سيدي الجيلاني
وفي مساء نفس اليوم أخذني الأستاذ حوتية في جولة بأطراف المدينة ليريني نظام الفقارة أو نظام توزيع المياه التي تسقي المزارع والحقول، وهي النخيل والخضر والفواكه. ونظام الفقارة عندهم نظام خاص يقوم على هندسة دقيقة لتوزيع الماء بالعدل والإنصاف بين الناس منذ مآت السنين. وهو يقوم على إحداث سواقي، كبيرة أو صغيرة من مجمع مائي، وذلك حسب حاجة كل فلاح إلى الماء، أي حسب ما عنده من حرث.
كما تجول بي في أحياء أدرار القديمة، أين ولد، وأين حفظ القرآن الكريم، وأراني بيوت بعض الجيران الذين لهم اليوم اسم شائع في عالم الاقتصاد والمال مثل منزل عائلة السيد الجيلاني مهرية (مهري) السوفي الذي كان والده يقيم قرب جامع سيدي عبد القادر الجيلاني. وبعد فترة من الإهمال جاء السيد مهري (الابن) وهدم البناء القديم وبنى مكانه مبنى من طابقتين وجعلهما لحفظ القرآن الكريم وإقامة غرباء الطلبة. وهم يسمون القرى والمجمعات السكنية (بالقصور). ولكل قصر نظام خاص به في الفقارة. وعندما اقترب وقت المغرب افترقنا، ثم التقينا عند صلاة العشاء في الجامع غير البعيد من فندق توات، فوجدنا شيخا معروف الاسم مهيب الرسم وهو الطالب سالم بن ابراهيم. كان الشيخ يلقي درسا على العامة في الفقه، ثم أخذ يجيب على أسئلة الحاضرين، وكان في الجامع عدد كبير من الطلبة والمريدين بلباسهم الأبيض وبشرتهم السمراء وجلستهم المستريحة وحياتهم الديموقراطية وأسئلتهم البسيطة. واللافت أن أسئلتهم كانت كتابية وشفوية.
علماء توات في التاريخ
وفي صباح اليوم التالي ألقيت محاضرتي على طلبة الماجستير كأمس، ثم أخذوني إلى القاعة التي عقد فيها ملتقى (علماء توات في التاريخ)، وهو الملتقى الذي يعقد للمرة الرابعة احتفاء بيوم العلم. وقد تكلم في الافتتاح السيد رزوقي مولاي عبد الله أمين الجامعة والدكتور يحيى عز الدين عميد كلية العلوم الإسلامية والسيد ميزوري رئيس المجلس الشعبي الولائي والدكتور عبد الكريم بوصفصاف رئيس المجلس العلمي... وقد لاحظت الاهتمام والمتابعة وسهولة الاستجابة للخطاب العربي الفصيح.
وقد لاحظت أن احتفالاتنا أصبحت تفتتح بالقرآن الكريم ثم بالنشيد الوطني (قسما) قبل أن يبدأ الحفل بالكلمات الرسمية المعتادة. ورغم أنني جئت ضيفا على الجامعة لدعم الدراسات العليا، فقد ألحوا وأصروا على أن ألقي "كلمة" في افتتاح الملتقى. وقد صارحتهم بأني إذا كنت أحسن الكتابة فإنني لا أحسن الارتجال في الكلام. لأن مخاطبة الجمهور بلسان مبين وجأش ثابت موهبة أخرى يمنحها الله لمن شاء من عباده.
كان الطلبة يطاردونني، فكلما وجدوني أخذوا يسألونني عن بحوثهم في فترة الثورة وغيرها. وكنت دائما أشفق على الطلاب فأعطيهم من وقتي ما لا أقدر عليه أحيانا، وهم لا يكتفون بالكلام بل يضيفون طلب المراجع والمصادر والرأي على صواب خططهم البحثية، ومعظمهم يريد أخذ الصور معي، وهي (مودة) راجت بين طلاب مختلف الجامعات، خصوصا عند نهاية السنة الدراسية وحضور أساتذة زائرين، وضاعف من انتشارها كثرة استعمال الهاتف المنقول.
بعد العصر أخذني الأستاذ حوتية لزيارة شيخه، شيخ أدرار الحالي (الطالب سالم بن إبراهيم) في بيته، وقد حضر معنا ابنه الشيخ سليمان وبعض الرجال الذين لا يتكلمون بحضرة الشيخ احتراما له، وأخبرني الشيخ سليمان بأنهم الآن يبنون بناية ملاصقة لمنزلهم ليجعلوها مدرسة للعلوم الشرعية، أما المدرسة القرآنية فقد وفرتها لهم بناية السيد مهري السوفي التي أشرنا إليها والتي لا يفصلها عن الجامع (جامع الشيخ عبد القادر الجيلاني) إلا الشارع. وأثناء الزيارة قدموا الشاي والسفنج المحلي (نوع من الفطائر)، وجرى بعض الحديث عن الشيوخ القدماء وظهور أدرار الحديثة.