وجد طابور زبائن المخبز مزدحماً،
وقد أدركه الوقت ... ولم يبدأ الخباز بعد.
أخرج نقاله من حقيبة حزامه وألقى نظرة سريعة على صفحته ثم رجعه إلى مكانه.
عرف الجميع أنه على عجلة من أمره.
ولما خبز الخباز ... دعاه الواقفون على الطابور أن يتقدمهم ويكون أول زبون!
لم ير الأمر غريباً، فسره وعلى قدر بساطته بالإحترام للجار الجديد حيث كان قد جاورهم منذ يومين.
تناول ربطة الخبز دون أن ينتبه إلى أنها تشبه ربطة عجين مدور! وكأن حرارة التنور مرت عليها مرار الكرام فلم تشوها بقدر اللزوم، هذا فضلاً عن القرامة التي كانت قد لصقت بها.
صمم أن لا يشتري من هذا المخبز مرة ثانية،
لكنه رجع إليه مضطراً لأنه لم يجد سواه في الحي الذي نزل فيه.
فوقف في الطابور ثانية وبدأ التنور يلتهب،
وتسطرت أقراص العجين وفرشت بإسطوانة الخباز،
ثم صار يلقفها الدوار واحدة تلو الأخرى ليخرجها بعد أن طوت محيط دائرة التنور خبزاً نصفه عجين!
وبينما كان بعض الشباب يسترق النظر نحو طابور النساء ليمتع نظره بحاجب محفوف،
أو جفن طلى بظلة العيون،
أو شعيرات مصبوغات خرجن سهواً من تحت الحجاب،
تلفت كبير الزبائن وكأنه يبحث عن الجار الجديد، ولما وجده أصر أن يكون الأول!
ولكن الجار الجديد رفض. ولم يجدِ معه الإلحاح مهما ألح الرجل وأصر.
والعجب أن معظم الزبائن كانوا يطلبون منه أن يتقدمهم!
شكرهم جزيل الشكر لإحترامهم له، وقدر خلقهم الجميل وعنايتهم به، إنما لم يتقدمهم للمرة الثانية.
ولما وجدهم يبالغون في تقدمه عليهم، خامره شك في صفاء نيتهم!
ثم قال كبيرهم بعد أن أيقن باليأس نحوه:
من يكون (الضحية) اليوم إذن؟!
رشقهم الجار الجديد بنظره رشقة متعجب ثم سأل بعضهم:
وما يعني الرجل بالضحية؟
قالوا بعد أن علت إبتسامة خبيثة على وجوههم:
لا يمتلك هذا الخباز مهارة كافية ولهذا فالدفعة الأولى من الخبز ليست مستوية، حتى أن ينظم حرارة التنور!
وعلينا أن نجد من يشتري الدفعة الأولى من الخبز!
ونسميه الضحية.
قال والحزن بدا على ملامحه الغريبة:
ألم تجدوا ضحية إلا الجار الجديد؟!
ثم لماذا لا تعالجون الأمر بطريقة سليمة يرضى بها العباد ورب العباد؟!
ولكنهم قد إنشغلوا بالبحث عن ضحية أخرى وكأنهم لم يسمعوا سؤاليه الساخطين أصلاً!
أو ربما سمعوه وتعمدوا أن يتجاهلوه!
إستلم ربطة الخبز بعد أن نظم الخباز درجات الحرارة ورجع إلى بيته الذي ما زالت الفوضى تعم أرجاءه،
وكان يدعو ربه بصوت جهوري:
(اللهم لا تطل علينا الإحتلال البغيض بجريرة هؤلاء الذين يحبون لغيرهم ما لا يحبون لأنفسهم).
وكان يكرر الدعاء مرة ومرتين وثلاثة .... ولم ينتبه للجارات اللواتي كنّ جالسات يتطارحن السالفة بعد السالفة،
وعند رؤيته أدخلن أطفالهن الذين كانوا يلعبون بجانبهن في البيوت، وهنّ يتهامسن عن جنونه الذي تجلت علائمه في هذيانه!
هكذا إعتقدت الجارات .... إنه يكلم نفسه ويهذر... وهذه سمات الجنون!!