بسم الله ، والحمد لله،والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد :
أخي الحبيب " المهتدي" إن شاء الله لا "المحتار" أسأل الله أن يقدر لك الهداية، ويجنبك الغواية، ويهديك الصراط المستقيم.
أخي الحبيب لنا مع استشارتك هذه وقفات:
الأولى: تتعلق بالجو المشحون الذي تعيش فيه، وأنت تزعم أخي الحبيب أنه بسبب والدك، ولئن كان الأمر كما ذكرت، فأرجو ألا يكون هذا سببا لعصيانه من قريب أو من بعيد، وهذه أخي الحبيب سنة الحياة، فإن الحياة لم تخلق للراحة ولا للدعة، وصدق الشاعر حين قال:
جبلت على قدر وأنت تريدها صفوا من الأقذار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
ومن هنا فأوصيك أخي الحبيب بالصبر والاحتساب، والمواظبة على الدعاء لوالدك بالهداية، وهذا من أسباب الخشوع التي سأحدثك عنها إن شاء الله، ولا مانع من أن تدعوه للصلاة، أو تدعو أحد المقربين إليه ليدعوه للصلاة، فلا خير في تارك لفريضة الله تعالى.
الثانية: إن افتخارك بإيمانك أمر مطلوب ، وأسأل الله لك الثبات والقبول، وهذا ديدن كل مسلم، ولله در الشاعر:
ومما زادني فخــرا وتيها وكدت بقدمي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن جعلت احمد لي نبيا
ولكن أخي الحبيب إياك والعجب ، ففرق بينه وبين الافتخار، فافرح بإيمانك، ولا تعجب به، وما أروع ما قاله ابن القيم في هذا المقام : ما أقرب المدل ـ المنان بعمله ـ من مقت الله , فذنب تدل به لديه , أحب إلى الله من طاعة تدل بها عليه.
وإنك أن تبيت نائماً وتصبح نادماً , خير من أن تبيت قائماً وتصبح معجباً , فإن المعجب لا يصعد له عمل، وإنك أن تضحك وأنت معترِف , خير من أن تبكي وأنت مدل . وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين المدلين. (تهذيب مدارج السالكين / ص 120 ).
وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : سيئة تسوؤك خير عند الله من حسنة تعجبك .
الثالثة: وهي توكلك على الله تعالى وهو أمر محمود لك، وهل هناك أفضل من التوكل عليه سبحانه؟
ولكنك أخي الحبيب لم تحسن التدليل على توكلك على الله جل وعلا، حيث دللت على ذلك بوعدك فتاة بالزواج، وهنا أسألك : كيف وعدتها؟ وهل هذه خطبة يعلم بها ولي أمرها؟ أم مجرد كلام بين شاب وفتاة؟ أم ماذا؟
أخي الحبيب : إن كانت هذه خطبة ، فاستعن بالله، والله معينك، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم:" ثلاثة حق على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف" رواه أحمد والترمذي وذكره الألباني في صحيح الترمذي(1352 ).
وأما إن لم يكن هذا الأمر خطبة بالطريقة المشروعة، كما هو متعارف بين شباب اليوم، فأوصيك بالبعد عن هذه الفتاة، وسل الله أن يرزقها خيرا منك، وأن يعوضك خيرا منها، وحيث إنك لم تستطع بعد الزواج ولم تقدر على مؤنته فعليك بالصيام فقد قال صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء........" رواه البخاري في النكاح (5065) ومسلم في النكاح ( 1400).
الرابعة: وهي تتعلق بالخشوع وهو لب الموضوع، فاعلم أخي الحبيب أن الخشوع توفيق من الله وهو ضراعة القلب، وطمأنينة فيه، وسكونه لله جل وعلا، وانكساره بين يديه، ذلاّ وافتقاراً. ولا يوفق إليه إلا الصادقون من خلقه.
واعلم أخي الحبيب أن محل الخشوع: القلب، وأن ثمرته تظهر على الجوارح، وقد قيل: إذا ضرع القلب، خشعت الجوارح، وذلـك أن القلب مَلِك البدن، وأمير الأعضاء، تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".رواه البخاري في الإيمان (52) ومسلم في المساقاة ( 1599).
وقد لام الله صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعاتب من لم يبلغ هذه الدرجة فقال سبحانه: (أََلَمْ يَاًنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَـطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16] .
والمتأمل لحياة النبي صلى الله عليه وسلم يرى أنه بلغ الذروة من الخشوع، وكان من خشوعه أن يرى في صلاته وفي صدره "أزيز كأزيز الرحى ـ أي الطاحون ـ من البكاء" رواه أبو داود، (904) وذكره الألباني في صحيح أبي داود(799).
وربما بكى صلى الله عليه وسلم " فبلّ حِجْرَه، ولحيته، والأرض تحته" رواه ابن حبان (620) وصحح محققه إسناده.
ومن السلف من كان يقوم في الصلاة كأنه عمود تقع الطيور على رأسه من شدة سكونه وإطالته، ولهم في ذلك أحوال يطول منها عجبنا؛ لأننا لا نرى ذلك في واقع حياتنا .
ويمكن تحصيل الخشوع بالأمور الآتية:
الإقبال على كتاب الله الكريم تلاوة وفهما، وتدبرا وعملا.
إدامة النظر في ملكوت الله، وطول التأمل وكثرة التدبر فيما خلق.
المسارعة في الطاعات، واستباق الخيرات.
وأحسب أنك على الطريق إن شاء الله، فقد قلت أخي الحبيب : ( إنني يقشعر بدني عند تلاوة القرآن) وهذه القشعريرة ـ أسأل الله أن يديمها عليك ـ هي أثر عظيم من آثار الخشوع، وقد قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) (الزمر: 23) .
أما البكاء خوفا من الله فحرصك عليه أمر محمود، فنعمة البكاء خوفا من الله يحسد عليها أصحابها، وكيف لا وقد قال صلى الله عليه وسلم:" عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله " رواه الترمذي( 1639) وذكره الألباني في صحيح الترمذي ( 1338).
وقال:" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق، أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا، ففاضت عيناه"متفق رواه البخاري في الأذان ( 660) ومسلم في الزكاة ( 1031) .
ولكن أيها الأخ الحبيب إن لم تصل إلى درجة البكاء، فعليك بالتباكي، وهو محاولة البكاء تصنع هذا البكاء إن كنت منفردا ، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم:" إن هذا القرآن نزل بحزن و كآبة، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا " رواه ابن ماجه وذكره الألباني في ضعيف ابن ماجه( 2025).
واعلم أخي الحبيب أن الخشوع مأمور به في الصلاة،قال تعالى
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) المؤمنون:1، 2. ولذلك إذا ذكر الخشوع انصرف الذهن إلى الخشوع في الصلاة، والسبب في ذلك يرجع لكون أعمال الصلاة تتضمن الذكر، والدعاء، وقراءة القرآن، والركوع، والسجود، وهي مواطن الخضوع والبكاء والخشية والتخشع.
ويقصد بالخشوع في الصلاة: حضور القلب وسكون الأطراف، وتحقيق الخشوع أمر يسعى إليه المخلصون من عباد الله، وهو يتطلب جهداً كبيرا وعزيمة أكيدة، وهمة عالية، فابذل أخي الحبيب على قدر وسعك يخشع قلبك بأمر الله.
ولكي يخشع قلبك في الصلاة أخي الحبيب عليك بالآتي:
أولاً: استشعار عظمة الله: فاستشعار عظمة الله يثمر في القلب الذل لله، كما يورث الخوف والحياء من الله سبحانه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإحسان :" اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" رواه مسلم في الإيمان (
عن عمر بن الخطاب..
واعلم أنك ستقف بين يدي الله عز وجل، وأنّ الله تبارك وتعالى ينظر إليك، فاحذر أن ينظر الله إليك وأنت لاه عنه، لذا قال صلى الله عليه وسلم: "فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإنّ الله ينصب وجهه لوجه عبده في الصلاة ما لم يتلفت" رواه الترمذي وذكره الألباني في صحيح الترمذي (2298).
ولما سُئِل حاتم الأصم عن صلاته قال: إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه، فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوم إلى صلاتي، وأجعل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن شمالي، ومَلَك الموت ورائي وأظنها آخر صلاتي، ثم أقوم بين يدي الرجاء والخوف، وأكبر تكبيراً بتحقيق، وأقرأ بترتيل، وأركع ركوعاً بتواضع، وأسجد سجوداً بتخشع... وأتبعها الإخلاص، ثم لا أدري أقُبلت مني أم لا؟ فانظر أخي الحبيب حال حاتم وتأمل!
وهذا علي بن الحسين كان إذا توضأ اصفر لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟، فيقول: "أتدرون بين يدي من أقوم؟
ثانيا: سل الله دائما في دعائك أن تكون من الخاشعين، وقد كان إمام الخاشعين صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:"اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع."رواه الترمذي وذكره الألباني في صحيح الترمذي (2769).
و كان يقول "... رب اجعلني لك شَكَّاراً، لك ذكّاراً، لك رَهّاباً، لك مِطواعاً، إليك مُخبِتاً أوّاهاً مُنيباً" رواه ابن ماجه الترمذي وذكره الألباني في صحيح الترمذي (2816).
ثالثا:تجنب الذنوب والمعاصي، فصاحب المعصية لا بد أنه فاقد للخشوع، وهي سدٌ منيع يقف أمام خشوع العبد في صلاة، وقد كان عبد الله بن عباس يقول: إن للحسنة ضياء في الوجه، ونورا في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادا في الوجه، وظلمة في القبر والقلب، ووهنا في البدن، ونقصا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق.
و قال ابن القيم وهو يعدد آثار المعاصي : ومنها وحشة يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله، لا يوازنها ولا يقارنها لذة أصلا، ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة، وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة وما لجرح بميت إيلام. (الداء والدواء /35).
رابعا: الإكثار من الطاعات، فكما أن المعصية تدل على أختها فالطاعة تدل على أختها، ذكر ابن القيم في " الداء والدواء " : أن المعاصي تزرع أمثالها حتى يعز على العبد مفارقتها , والخروج منها .
وقال بعض السلف : إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها ولا يزال العبد يألف المعاصي ويحبها ويؤثرها حتى يرسل الله عليه الشياطين فتؤزه أزاً (الداء والدواء / ص 47).
وقد كان من كلام السلف : علامة قبول الطاعة الطاعة بعدها . فإن وفقت لطاعة فهذه علامة قبول حجك . وقد قال ربنا] : وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [ مريم : 76.
ويقول ابن عطاء الله : من وجد ثمرة عمله عاجلاً فهو دليل على وجود القبول آجلاً .
ومن أعظم هذه الطاعات قراءة القرآن الكريم. والطاعات بعامة تزيد الصلاة خشوعاً، وتزيد العبد إقبالا على الله تعالى، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: "أتحب أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك: ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلين قلبك، وتدرك حاجتك" رواه الطبراني في الكبير وذكره الألباني في الصحيحة (854).
خامسا: إعطاء الصلاة قدرها الحقيقي: وهذا يعني عدة أمور، أهمها:
التبكير للصلاة، وانتظارك لها، فهذا أدعى للخشوع؛ بل هو رباط في سبيل الله، وفي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم:" ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟" قالوا : بلى. يا رسول الله! قال "إسباغ الوضوء على المكاره. وكثرة الخطا إلى المساجد. وانتظار الصلاة بعد الصلاة. فذلكم الرباط". رواه مسلم في الطهارة (251) .
إحسان الوضوء.
صلاة النافلة قبلها وكذلك بعدها.
تعلّم أركان الصلاة وسننها واعمل بذلك. تدبر أذكار الصلاة، فإذا كبّرت فكن على يقين بأن الله أكبر من كل شيء، وحين تسمّع (سمع الله...) فاستشعر قدرة الله على سماعه لكل مخلوقاته وهكذا.
تدبر آيات القرآن في الصلاة.
سادسا: تذكّر الموت في الصلاة، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: "اذكر الموت في صلاتك، فإنّ الرجل إذا ذكر الموت في صلاته، لحريّ أن يحسن صلاته، وصلِّ صلاة رجل لا يظن أنه يصلي صلاة غيرها..." رواه الديلمي وذكره الألباني في الصحيحة، (1421).
وأخيرا فأسأل الله سبحانه أن يقدر لك الخير، وأن يهديك طريقا مستقيما.