التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية
الجريمة المسكوت عنها
بعد قرن وثلاثين
سنة من الإستدمار في الجزائر، أضافت فرنسا إلى كل ذلك سلسلةً من التفجيرات
و التجارب النووية نفذتها الحكومة الفرنسية بدءًا من عام 1960، و هي تدرك
كليًا أخطار الأشعة المؤيّنة على الصحة و البيئة و بعد أن تَكَشَّفت للرأي
العام العالمي أبعادُ الهول النووي و التحذيرات منه بعد جملةٍ من التقارير
العلمية التي صدرت بعد التفجيرات النووية التي طالت ناغازاكي وَ هيروشيما،
ثمّ سلسلة التجارب البريطانية في استراليا و تبعها الاتحاد السوفيتي في
آسيا الوسطى. حيث أكّدت هذه التقارير العلمية أخطار الإشعاع و التي يمكن أن
تستمر لآجال طويلة.
لقد جاءت التجارب النووية
الفرنسية في الوقت الذي ساد العالم إدراكٌ و وعي تام بخطورة السلاح النووي
و الذي أفضى إلى توقيع ما عرف باتفاقية موسكو لمنع التجارب النووية في
الجو، أو تحت الماء بتاريخ 5 أوت 1963
لقد كان الدافع الدولي
لتحريم التجارب النووية هو التلوّث الواسع الذي تركته التفجيرات النووية
الفرنسية السطحية في الصحراء الجزائرية.
سرّي للغاية
مازالت السّلطات الفرنسية
تصّر على إبقاء ملف تجاربها النووية في الصحراء الجزائرية في أدراج السّرية
التامة، برغم المحاولات العديدة التي سعت إلى فتح الأرشيف باعتباره ملكًا
للبلدين، على الأقل لتحديد مواقع و مجال التجارب و طاقاتها التفجيرية
الحقيقية لأخذ التدابير الوقائية اللّازمة لحماية البيئة و السكان، خوفًا
من زيادة التعرّض للإشعاع المتبقي في مناطق باتت تشهد تصاعد أعداد مرضى
السرطان بكل أنواعه، و تكرار الولادات الناقصة و التشوّهات الخلقية
المسجّلة في تلك المناطق و غيرها من المظاهر المرضية المقلقة.
[right][b]
صور لأثار النفايات النووية في رقان -الجزائر
في حوار مع الباحث الجزائري عمار منصوري من مركز البحوث النووية، و الذي نشر ملفًا كاملًا عن هذه المأساة بمجلة الجيش عدد 559 فيفري 2010، كشف لنا ما تضمنته بعض الوثائق التي تمّ تسريبها قائلًا “
إنّ المناطق التي طالها الإشعاع، و منها رقان و إقليم توات حتّى صحراء و
مناطق تنزروفت و هي مناطق صحراوية كانت بها واحات مأهولة بالسكان و تضج
بالحياة، و سكنها أكثر من 140 ألف نسمة، أمّا مدينة رقان المنطقة الأكثر
تضرّرًا فقد كان يسكنها آنذاك حوالي 8 آلاف ساكن، هذه المنطقة لا تبعد إلّا
بمسافة 50 كم فقط عن النقاط التفجيرية المسمّاة نقطة الصفر لتنفيذ التجارب
السطحية الأربع، المسمّاة باليربوع الأزرق و الأبيض و الأحمر و الأخضر
على التوالي.”
و تشير الوثائق أيضًا إلى
أنّه تمّ تعيين حوالي عشرة آلاف شخص في إطار هذه المهمّة داخل مناطق
التجارب الأكثر خطورة و هم موزّعين بين مدنيين و عسكريين فرنسيين و
جزائريين و منهم عمّال بسطاء و مواطنين من سكان المنطقة. و في المناطق
الأكثر خطورة تمّ إجبار البعض على البقاء في دائرة الخطر المميت، أغلبهم
مساجين و أسرى جزائريين جيء بهم من دون دراية منهم بالأمر المُبَيَّت.
و للاستدلال على حجم
المنجزات المهيّأة للتجارب، ذكرت ذات المصادر أنّه تمّ مدّ أكثر من 200 كم
من الكوابل الكهربائية و القنوات المدفونة، و سبعة آلاف متر مكعب من
الإسمنت المسلح في الأماكن المسمّاة نقطة الصفر، و هي
مازالت إلى يومنا هذا مدفونة إلى جانب كل العتاد العسكري الكبير من بقايا
مختلف أصناف الأسلحة العسكرية، منها الطائرات، الدبّابات، الدروع،
السيارات، الأبراج العسكرية الخاصّة و مولّدات الطاقة الكهربائية التي
تشبّعت بالإشعاع عالي التركيز.
يوم الهول الكبير
الانفجار النووي قتل جزءًا من الصحراء الجزائرية
استنادًا لعديد المصادر و
الكتابات التي قدّمت في مختلف الملتقيات العلمية التي انعقدت في الجزائر و
التي دوّنت شهادات بعض ممّن شَهِدوا يوم الهول الكبير، و منهم الطيّار
الفرنسي موريس جاكين الذي كان حاضرًا في أثناء التفجير السطحي الأوّل المسمّى اليربوع الأزرق،
حيث كُلِّف هذا الطيّار بمهمّة مسح كميات و مستويات الإشعاع المرافق
للسحابة النووية الناجمة عن التفجير، فغامر هذا الأخير بالمرور بطائرته
عبر ذيل السّحابة المشعّة بعد التفجير، فتوفي بعد حوالي أربعة أشهر من تلك
المهمّة. و للعلم تُعدّ حمودية أوّل موقع للتجارب النووية الفرنسية القذرة،
و التي شهدت الأهوال بين 1960 وَ 1961،
إذ قامت فرنسا بأربع تفجيرات نووية سطحية انتشر أثرها إلى المناطق
المجاورة، خصوصًا و أنّ حمودية تقع على بعد 50 كم جهة جنوب غرب رقان غير
البعيدة عن كلٍّ من مدينتي أدرار و بشار. و يذكر الباحث عمار منصوري على ضوء ما جاء في الوثائق المسرّبة أنّ ” القدرة الإجمالية للتجارب الأربع هذه في حدود 100 كيلو طن من الديناميت.
و في نفس السّياق أكّد البروفسور إيف روكار
الذي كان حاضرًا في منطقة رقان بصفته خبير علمي، أنّ العمليات الأربع جرت
في ظروف مناخية سيّئة جدًّا و النتيجة أنّها كانت الأكثر تلويثًا ممّا كان
يُتوقّع، لقد تطايرت العناصر المشعّة الخفيفة و بقيت عالقة في طبقات الجو العليا في كل من طبقتي التروبوسفير و الستراتوسفير
هذه الملاحظة التي أدلى بها هذا الفيزيائي الفرنسي أكّدها أيضًا ما ورد في
التقرير السنوي للجنة الفرنسية للطاقة الذرية CEA عام 1960 بالاعتراف بوجود منطقة ملوّثة إشعاعيًا بنسبة عالية على طول 150 كلم تقريبًا عن نقطة الصفر بحمودية.
الشيء ذاته أكّده أيضًا التقرير المنبثق عن الزيارات العلمية التي قام بها فريق دولي من خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية1999، و الذي نُشر سنة 2005 جاء فيه ما يلي: ” إنّ المناطق المحيطة بما كان يُسمّى نقاط الصفر للتجارب النووية السطحية الأربع السابقة ما تزال ملوّثة بشكل كبير و إلى يومنا هذا
فرنسا دخلت التاريخ و حمودية توقّف عندها التاريخ!
تشير بعض المصادر المقرّبة
من وزارة الدفاع الفرنسية أنّ فرنسا تمتلك حاليًا؛ بفضل نتائج التجارب التي
قامت بها في الصحراء الجزائرية؛ 16 صاروخا و 96 رأسًا نووية بقدرة 14 ميغا
طن أي ما يمثّل 14 مليون طن من الديناميت، قوةٌ تتجاوز قنبلة هيروشيما
بأضعاف كثيرة.
و من الأشياء التي يكشف عنها ما تسرّب من الأرشيف الذي تحصّل عليه السّيد عمار منصوريتزامن التفجير الأخير المسمّى اليربوع الأخضر بتاريخ 25 أفريل 1961
مع هبوب عاصفة رملية هوجاء حملت الرّمل الداكن عاليا في الجو في منظر مرعب
ظنّه بعض البدو أنّه “ القيامة” بينما أذهل المشهد حتّى الفرنسيين أنفسهم
حمودية ليست وحدها من كان مسرحًا للتجارب النووية الفرنسية، فها هي منطقة اينيكر بالهقار تُضاف إلى قائمة مواقع التفجيرات بين نوفمبر 1961 وَ فيفري1966،
حيث أجري بها 13 تفجيرًا داخل أنفاق تمّ حفرها أفقيًا في عمق الجبل
الغرانيتي. و قدّر مجموع طاقات التفجيرات الباطنية 500 كيلو طن من
الديناميت.
و بهذا يكون مجموع ما تمّ
تفجيره سطحيًا و باطنيًا خلال كل فترات التجارب السبعة عشر هو 600 كيلو طن
من الديناميت أي ما يمثّل 40 مرّة قنبلة هيروشيما. من دون أن ننسَ- حسب
الباحث عمار منصوري- عشرات التجارب النووية الأخرى التي لم يُعلن عنها، خاصّة تلك التي نتج عنها انتشار البلوتونيوم.
الخطر المدفون انزاح عنه الرّمل..
إنّ من بين أخطر ما وقع تلك
الحوادث التي كانت مدرجة ضمن التفجيرات الباطنية لكنّها لم تسجّل على
اعتبار أنّها فشلت و قد نتج عنها خروج حمم و سوائل و عناصر مشعّة غازية و
أخرى طيّارة شكّلت سحبًا نقلتها الرّياح إلى غاية السكان المحليين على
مسافة 100 كلم، كما أدّت إلى تعرّض العاملين ضمن مواقع التجارب إلى بعض
المخاطر بصورة معتبرة.
حتّى الفئران و الجرذان و
سائر أصناف الحيوانات الأخرى و الحشرات شاركت في هذه التجارب النووية، إذ
وضعت صناديق مُلئت بهذه الحيوانات على مسافات متفاوتة من نقطة الصفر، فأمّا
القريبة من موقع التفجير فقد ماتت فور التفجير احتراقًا و صعقًا بالعصف
النووي، و أمّا البعيدة فمن المرجّح أنّها تكون قد انتشرت في الصحراء بعد
تحطّم صناديقها حاملة في أجسامها آثار الإشعاع.
و لا يستبعد السّيد منصوري أن تكون بعض المنشآت قد تُركت على حالها لاستحالة تفكيكها و صعوبة الظروف المناخية التي كان يجري فيها العمل.
و من كل هذا، يتّضح بأنّ ما
حصل في الجزائر قبيْل و بعد الاستقلال لم يتم التصريح به بشكل كلّي للرأي
العام الداخلي و العالمي، و الأخطر من ذلك أنّ تبعاتها مازالت إلى يومنا
تهدّد حياة سكان المناطق المتضرّرة من هذه التجارب النووية، فهل يدرك
الجزائريون حقيقة ما جرى؟ و هل فرنسا مستعدّة للاعتراف بما قامت به في
الجزائر من تجارب تهدّد وجود الانسان؟..