أعرابيّ في الفيسبوك. (1)
الجزء الأول
بينَا أنَا أتسكّعُ على صفحاتِ الفيسبوك، في يوم ربيعيّ قد توسّطت شمسه كبِد السماء، وهي صافية زرقاء، أراقبُ الرائحَ والغادي، وأتصيّد الأخبار في النّوادي، إذا بطلب صداقة لأعرابيّ لا يُرى عليه أثرُ السّفر والترَّحال قد لاحَ من بعيد، في أعالي أقصى اليسار من الشريط الأزرق، فأُهْرِعتُ إليه، وبادرتُ بالجلوس بين يديه، بعد كبس زرّ التأكيد، فأخبرني بأنّه كان ينتظر موافقتي منذ زمنٍ بعيد.
فطربتُ لذلك وقلتُ له: أخبرني عن أولادك ودارك، وماذا تنشرُ على حائطك وجدارك؟ فإنّني لا أرى لك أحداً من جيرانِك.
فأعرضَ عنّي وقال: نحن العربَ مضاربُنَا الخيام، فيها اليقظة والمنام، وما شأنُكَ بالأهل والأولاد؟
فأجبته قائلاً: يا أعرابيّ إنّنا هنا ننشرُ صور البنين والبنات، والأصدقاء والصديقات، في شتّى المناسبات. وعلى جدراننا نُذيعُ أخبارهم، ولا نَكْتُمُ شَيئا من أسْرَارِهم، أمَا سمعتَ قولَ الشَّاعرِ العَربي وهو يتظارف بالنميمة:
ولا أكتمُ الأسرار لكنْ أذِيعُهَا ... ولا أدعُ الأسرار تقتُلُنِي غمّا
وإنَّ سَخِيفَ الرَّأي منْ باتَ ليلُهُ … حَزِينا بِكِتمَان كأنَّ بهِ حُمّى
وفي بثِّكَ الأسرار للقلب راحة ... وتكشِفُ بالإفْشَاء عن قلبِكَ الهمّا
فقال لي: زمانُكم هذا زمانُ الضَّعَة والهوان، أين المروءات والإحسان، ثمّ أنشأَ يقول:
إذا المرء أفشى سره بلسانه ... ولام عليه غيره فهو أحمقُ
إذا ضاق صدر المرء عن سرّ نفسه ... فصدر الذي يستودع السرّ أضيق ُ.
ثمّ ألم تقل لي بأنّ لكم جدرانَ وحيطان تستترون فيها وتحتمون بها؟ فكيف صيّرتموها للنّشر والإذاعة؟ ثمّ ألسْنا نَصنع الجدارَ كي نُواريَ عن محارِمنا الأنظار، ونحتجبَ عن حُرُمَاتِ الجار؟ أما سمعت قول طرفة:
وأغضّ طرفيَ إنْ بدَتْ ليَ جارتِي ... حتى يواريَ جارتي مأواها.
أو ليس فيكم ذو مروءة فيغَار؟ أليس من السّفه والطّيش أن تؤذنَ بخراب البيوت بعد بنيانها؟ وتتسوّر الجدران والديار على أهلها؟ أما سمعت قول مجنون ليلى وهو يضرب لنا مثلا في العفّة والاستتار وصون حرمات الجار بقوله:
أمرّ بذي الدّيار ديار ليلى ... أقبّل ذا الجدارَ وذا الجدَارَا
ومَا حبّ الدّيَارِ شغَفْنَ قلبِي ... ولكِنْ حبُّ منْ سكَنَ الدّيَارا.
فإننا ما خلّفناهنّ وراءنا ليلاً مصوناتٍ في الخُدُور، لننشر ونذيع خبرَهنّ نهاراً على الجمهور، أهَكَذا يُستهان بالعِرْض والأخلاق، (والعرب أغير الأمم على الأعراض، يفخَرونَ بالبُخْل بها وصيانَتِها فخْرَهُم بالجُودِ بالمال وبذلهِ، ويحافظونَ عليها في صَحْوهم وسُكرهم كما قال عنترة العبسي:
وإذا شربت فإنني مُستهلِكٌ ... مالي، وعِرْضي وافِرٌ لم يُكْلَمِ
لأنّ المال يُعوَّض إن فُقِد، والعرض إن ثُلِمَ لا يلتئم.
أصون عِرْضي بمالي لا أُدنِّسه ... لا بارك اللهُ بعد العِرْضِ بالمالِ
أحتالُ للمال إنْ أَوْدَى فأجمعه ... ولست للعِرض إن أودى بمُحتالِ) (2)
فلمّا رأيتُه استشاط غضبا قلتُ له: هوّن عليك يا أخَا العرب، إنّها سوقُ "الجَماجِيم" (3) يتساوَى فيها الصحيحُ مع السّقيم.
قال لي: وما "الجماجيم"؟
قلتُ له: إنّها جمع تكسير سالم، يعوّل عليه كثيراً في دفع المظالم، والأفراحِ والمآتم، تساقُ منه الكتائب زرافات زرافات، كي تَجْتَزَّ نَواصِيَ البغْي والعُداة، وعليها أملُنَا الأقصى، في تحرير المسجدِ اأقصى.
فتنَهّدَ تنهيدةً رأيتُ منْهَا أثَرَ أنفاسِه على شاشةِ الجِهاز ثمّ أنشأ يقول:
وقبْلَكَ لَقّنّا العدّوَّ حِسابَهُ ... بأسيافِنَا يصْدَعْنَ هَامَ الجَمَاجِمِ.(4)
ثم أعقبه ببيت آخر يقول فيه:
وأورَثَنَا آباؤُنَا مشرفيّةً ... تُمِيتُ بأيدِينَا فُرُوخَ الجَمَاجِمِ.
وفي هذه اللحظة قاطعته قبل أن يُكْمل بيتَه ببيتين لأبي الطيب المتنبي ـ حتى لا يسبقني إليهما ـ وهو يصف فيهما صنيع سيف الدولة الحمداني ويمدحه قائلا:
سقتها الغمامُ الغرُّ قبلَ نزولِه ... فلما دنا منها سَقَتْها الجماجم
طريدةُ دهرٍ ساقها فَرَدَدْتَها ... على الدين بالخَطّىّ والدهرُ راغمُ.
فأطرق برهةً ثم قال: وأين فتيانُ القبيلة وفرسانُها؟
قلتُ له: إنّهم لا يضعونَ "الجَمَاجِيم" إلا للفتيات، أمَا سمعتَ قولَ الزَّاجِرِهِم:
يَا مَنْ يحدّقُّ في المنْشورِ يعُجِبُهُ ... ولا يجُودُ بكَبْسٍ فوقَ إعْجَابِ
لوْ كنْتَ تقرؤُهُ من عندِ غانِيةٍ ... لَزِدْتَهَا بعدَهُ شكْراً بإطْنَابِ.(5)
وفي هذه اللحظة :
فصَاحَ يالَضَيعَةِ الأنْسَابِ ... تحوَّلَ النَّسرُ إلى غُرَابِ
كيفَ ارتَضَى أبُوهُ هذَا العَارَا ... وهَلْ جَوَادٌ يَلِدُ الحِمَارَا؟ (6)
فقلتُ له هذا ما تنبّأَ به شاعرُهُم ـ المتنبي ـ قبلَ سنين يا أخَا العرب حين قال:
أرى الأجدادَ تغلبُها كثيراً ... على الأولاد أخلاقُ اللئامِ.
فكأنّه ظنّ أنني أعنِي ذلك التاريخ الذهبي للأمّة العربية، حيث كانت ترفلُ في عزّة وإباء، فراح ينشدُ ردّاً على ما توهّمه طعناً في الأصول لا الفروع، مبيّنا لي كيف أن الفتى العربي كان فارس سِنان ولسان، وأنّه يشتدّ عودُه على خوض المعارك، وقرع السّيوف، فينبتُ نباتا حسناً:
(خَرَجْنا نُقيمُ الديّنَ بَعْدَ اعْوِجاجه ... سَوِيَّا وَلمْ نَخْرُجْ لجَمْعِ الدَّرَاهِمِ)
(إِذا أحْكَمَ التَّنزِيلُ وَالحِلْمُ طِفْلنا ... فَإن بَلُوغَ الطِّفلِ ضرْبُ الجماجِمَ) (7)
وبينَا أنا وهو كذلك لم أشعر إلا والليلُ قد أسدلَ أستارَه على البشريّة، وعمّت السكينةُ الدّور، وازداد عددُ المتّصلين في المحادثة، كلّهم موقدين أنواراً خضراء أمام سُكْنَاهمُ، فانصرفتُ عنهُ بسمعي وبصري وجميع جوارحي للردّ على رسالة إحداهنّ، فطال حديثي معَهَا، فـ ( ـافْتَجَأتُ ) به يهاتِفُنِي بالصّوتِ والصّورة، فرددتُ...
يتبع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ هذا حوار خيالي حاولت أن أقلّد فيه الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في كتاباته: أعرابي في الحمام، وأعرابي في السينما، ... وغيرهما معتمدا على المفارقة في سرد الأحداث، وقلب الحقائق، وموظفا ما استطعت استحضاره من شعر، مسلطا الضوء على أغلب المظاهر السائدة في الفيسبوك.
2ـ ما بين قوسين مقتبس بتصرف من كلام الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في كتابه صور وخواطر.
3ـ الجماجيم جمع ـ مثل: فقاقير على غير قياس ـ لكلمة جام بالأجنبية وتعني: الإعجاب.
4 ـ البيت ليس لي فقد تصرفت فيه بأسلوبي الخاص فقط.
5 ـ البيت للشاعر Ismail Mouloudi
6ـ البيتان من أرجوزة بعنوان: دعي الخنفساء. للشاعر فرح عقيلان وليست لي.
7ـ البيتان ليحيى بن زيد بن علي بن الحسين.