أعرابي في الفيسبوك .... الجزء الثاني.

أعرابي في الفيسبوك (1)
الجزء الثاني.
....وبينَا أنا وهو كذلك لم أشعر إلا والليلُ قد أسدلَ أستارَه على البشريّة، وعمّت السكينةُ الدّور، وازداد عددُ المتّصلين في المحادثة، كلّهم موقدين أنواراً خضراء أمام سُكْنَاهمُ، فانصرفتُ عنهُ بسمعي وبصري وجميع جوارحي للردّ على رسالة إحداهنّ، فطال حديثي معَهَا، فـ ( ـافْتَجَأتُ ) به يهاتِفُنِي بالصّوتِ والصّورة، فرددتُ.
فقال لي: أينَ أنتَ من قول الشّاعر:
أحادثُ ضَيفِي قبْلَ إنزالِ رَحْلهِ ... ويخصبُ عندي والمكان جَديبُ
وما الخَصْبُ للأضْيافِ أنْ يُكثَرَ القِرَى ... ولكِنَّمَا وَجْهُ الكَريمِ خَصِيبُ.
فأخبرتُهُ بما أنا فيه، فأثار ذلك حفيظته وقال: أوَتحدّثني وأنْتَ في خَلْوَةٍ مع أخْرى؟
قلتُ له: وماذا تريدُ...؟ ثمّ إنّي لم أفعل منكرا، أوَمازلت تؤمنُ بما قاله مجنون ليلى في أبياته السالفة التي أنشدتها لي؟ تالله إنّك إذاً لفي ضلالك القديم، نحن الآن في زمن التحرر والحريّة، فلا شيء تواريه عن محبوتك ولا شيء تواريه عنك، تنشر لها على جدارها، وتنشر لك، وإذا تعذّر الأمر تكتفي بالإشارة إليك، فتكون صورتُها أمام عينيك، يشاركها ويعجبُ بها كلُّ من أمره يعنيك، ألم تبلُغكَ مقالةُ شاعرنَا الفنّان، وهو يرسم حبَّها على الجدران قائلا:
سأكتُبُ ما أشاءُ على الجِدارِ … فليسَ الصَمتُ يَحجُبُ ما أُوارِي
فإنَّ الحُبَّ يَبدَأُ مِنْ رِهانٍ ... ليَعظُمَ مِثلَ ألعابِ القِمارِ
إذا أمسَكتُ قَلبي عَنْ هَواها ... فإنِّي سَائِرٌ نَحوَ انفِجارِ
و ماضٍ بَعدَما أنكَرتُ حُبِي ... بِلا شَكٍّ لِمَشرُوعِ انْتِحارِ
و هل لِي غَيرُ جُدرَانٍ لأُطفِي ...علَيها حُرقَتِي و لَظَى جِمارِي
على جُدرَانِ بَيتِهِمُ سَأُفنِي ... مِدادي كالمُعِّدِّ لأخْذِ ثَارِ
سأكتُبُ خِلسَةً في الَّليْلِ عَنها ... ليُنشرَ ما أسَطِّرُ بالنَهارِ
و أمْلأُ دَارهُمْ بِالشِعرِ حتى ... تَصِيرَ مُجلَّداً بَيْنَ الدِيارِ
و تَشْهَدَ كُلُّ جُدْرانِ المَبانِي ... و تَشهَدَ كُلُّ أعْمِدَةِ الجِوارِ
و لا أدري أيُخْمِدُ ذَاكَ شَيئاً ... يَسِيراً مِنْ لَظَى قَلبِي و نَارِي
يشيبُ القَلبُ إلا عنْ حَبِيبٍ ... يُحرِّكُ فِيهِ إحْساسَ الصِغارِ (2)
فشتمني وقال لي إنّك لفاسق. أتجاهر بما لو قلته بينك وبين نفسك لعُدَّ كبيرةً من الكبائر، ولا تزال تُشهِد الخلق على ما فعلتَ، دون أن يمنعك الحياء من التستّر؛ وكأنّك لم تسمع قول سيدي المرسلين صلوات ربي وسلامه عليه: "كل أمّتي معافى إلا المجاهرون."
أما كان حريّاً بك أن تتَمثَّل بقول الآخر:
أواري مِنْ هَواهَا مَا أواري ... مَخَافَةَ أَهْلِهَا أوْ إبْنِ جَارِي
وأَمْحُو حِينَ يَجْمَعُنَا لِقَاءٌ ... سَرِيعاً مَا كَتَبْتُهُ في النّهَارِ
وأذْكُرُ أَنَّنِي أرْسَلْتُ يَوماً ... لَهَا قَلْباً فَقَالَتْ لي:" حَذَارِ ...
حذارِ فإنَّ هَذَا الحُبَّ سِرٌّ... عَظِيمٌ فَوقَ ألْعَابِ الصَّغَارِ
حذارِ فإنَّ هَذَا الحُبَّ لُغْمٌ... خَطِيرٌ بلْ سريعُ الانْفِجَارِ
وهَبْ أنِّي أحِبُّكَ يَا صَدِيقِي.... وأنِّي قَدْ خَصَصْتُكَ بِالحِوَارِ
فَكَيفَ بِشِعْرِكَ الفَتَّانِ قُلْ لِي ... وتَعْلِيقِ الوُشَاةِ عَلَى جِدَارِي. (3)
فقلت له: وفّر عنّي خطاباتِك الوعظيةَ هاته يا أعرابي واسمع لما سأقوله لك.
ألم يأتِك نَبأُ فنّ الحديث؟
قال لي: لا.
قلت له:
إنّ بعضَ القول فنٌّ ... فاجعلِ الإصغاءَ فنّاً.(4)
قال لي: أنا مُصغٍ إليك ... ما فنّ الحديث هذا؟
فقلت له : إنّهُ "التّحلابْ".
فقال لي: وما ذاك؟
قلتُ له: ألا تعرفه؟
قال لي: بلى أعرفُهُ. فقد حَلبتُ النُّوقَ والبقَرَ والمعزَ في البادية منذ نعومةِ أظفاري.
فتبسّمتُ من قوله ضاحكا وقلتُ له: صدقتْ. هو ذاك ولكنّها نوقٌ وبقر من جنسٍ آخر؛ لا تدرّ لبناً ولا حليباً.
قال لي: وما هِي؟
قلتُ له: "التّحلابْ " أنْ تهتمّ لأمرِ الصّديقةِ في هذا الفضاء الأزرق، وتبادرَ لبَذلِ "الجَماجِيم" إعجاباً بالصغيرة قبل الكبيرة، وبالأمر الحقير قبل الخَطير(5) ، وتسعى لذلك سعياً حثيثاً قبل أن يسبقكَ أقْرانُكَ فتكون الأخير، ولهم أعمال دون ذلك هم لها عاملون بلا نكير.
قال لي: إنّ هذا لمكرٌ مكرتُموه في المدينة الزرقاء، ومعنى استحدثتموه، ما عرفناه نحن ولا آباؤنا الأقدمون.
ثم قال متوجّساً وهو يناجيني بعد أن قرّب وجهه حتى غطّت عمامَته صورة وجهه: أخبرني ... هل كانت تعرف العرب ذلك؟
قلتُ: نعم. أ نَسيتَ قولَ علقمَة بن عبَدَة الفحل وهو يحلّبُ في أمِّ جُندُب، بحضورِ زوجِها الملك الضليل، امرئ القيس حين قال:
وأقبلَ يهْوِي، ثانياً من عِنانهِ ... يَمرُّ كَمرِّ الرَّائحِ المُتَحَلَِّبِِ.
فاستحسنت قوله على قول زوجها فغضب منها وطلّقها.
ولمّا انتهيتُ رنَوتُ بنظري إليه فإذا هو شاخصٌ بصُرُهُ، والدمع منه يذرف، وهو يردّد:
ذَهَبَ الّذينَ يُعاشُ في أكنافِهمْ ... وبَقيتُ في خَلفٍ كجِلدِ الأجرَبِ
يَتَأكَّلُونَ [مَغَالَةً وخِيَانَةً] ... ويُعَابُ قائِلُهُمْ وإنْ لم يَشْغَبِ
مِنْ كُلِّ كَهْلٍ كالسِّنَانِ وسَيِّدٍ ... صَعْبِ المَقَادَةِ كالفَنيقِ المُصْعَبِ
مِنْ مَعشَرٍ سَنّتْ لَهُمْ آبَاؤهُمْ ... والعِزُّ قَدْ يأتي بغَيرِ تَطَلُّبِ (6)
فقلت له: هوّن عليك، ولا تذهبْ نفسك عليهم حسرات، إنّما هو الحبّ وعلّاتُه، أما سمعت قول "شاعر هذا الفنّ المقدّس" نزار قباني:
الحبّ في الأرضِ شيءٌ من تخَيُّلِنَا ... لوْ لمْ نَجِدْهُ عليهَا لاخترعنَاه.
فقال لي عند ذلك: الحبُّ داءٌ ذهبَ بعقول الكثيرين، أما سمعت بخبر مجنون ليلى ومثلُهُ كثير؟
قلت: بلى. سمعت بخبره؛ وقد نصحّني أحد الأطباء منذ فترة قائلا: لا تُكْثِرْ منْ هذه "الحُبُوب" فإنّها مُضِرّة بالصّحة.
فاعترضني قائلا: وما الحُبُوب؟
قلتُ له: هي جمع مفرده : حُبٌّ؛ وجُمعتْ بواو وباء حملا لها على جمع التصحيح (7)، وهذا مما يجيزه السماع وينكره القياس وهو حسن.
فأنكرَ عليّ ذلك قائلا: وهل تعرف العربُ ذلك؟
قلتُ له : نعم. أما سمعت قول جميل بثينة بعد أن أقعَدَهُ المرض:
ولقدْ كَرِهتُ الصَّيدليّةَ في الجَوَى ... وعِلاجَ كلِّ مُمَرِّضٍ وطَبيبِ
أوَكُلَّمَا حلَّ الصُّداعُ بِخَافِقِي ... كانَ الدواءُ "بُثَينًةً" لِـ"ـحُبُوبِي" ( Cool

فأنكر عليّ روايتَهُ إنكاراً شديداً ، ثم قال:هل لك غير هذا؟
فقلت له: نعم. بيتان هما من آخر ما قاله امرؤ القيس قبل وفاته، ولا مندوحة لك كي تطعن فيهما.
قال: هاتِ ... أنشدني ...
قلت:
أجارتَنَا إنّا غريبانِ هاهنَا ... وكلُّ غريبٍ للغريبِ "حُبُوبُ"
فإنْ تَصِلينَا بالقرابةِ بيننا ... وإنْ تصْرِمينَا فالغريبُ غَريبُ.
فأنكره علي وقال لا أعرفه هكذا.
فلمّا رأيتُ ظلَّه متثاقِلاً عليَّ، والأصدقاء والصديقاتُ ينادونني من كلّ حدبٍ وصَوب ولا أجيب، فكّرت في إثارة حَفِيظَتِه، والتخلّص منه برفق، فقلت له: تقفُ الآن على بابِ الطَّلبات أعرابية تخطب صداقتي، وتدّعي أنّها مشتركة معك في الخُلَّة والصّحبة والنّسب، فما قولك؟
قال لي: هذا افتراء وإفكٌ مبين، لا تكون هذه إلا بائعة هوى لَيلِيّ، أو إحدى سارقات القلوب، أو .... وقبل أن يتمّ كلامه قاطعته قائلا: ... أولعلّه لصٌّ حسابات وبنوك، فقد زادت في هذه الأيام الشكوك، بعد عودة ناهبِ الصكوك الذي قال فيه شاعر البلاط:
أتَى ربُّ البريةِ بالطَّبيبِ ... أتَى رَجلُ المواقفِ لا الهُروبِ .
أتَانَا سَائِسُ البترولُ مُحْيي ... رَمِيمَ النفطِ، كَشَّافُ الكُروبِ.
أتَى غَيثُ الجزائرِ بعْدَ جدْبٍ ... زُلاَلًا صَيِّباً بِيَدَيْ "شَكِيبِ"(9)
فلما انتهيتُ قال لي: بئسَ الزمانُ زمانُكم؛ إذْ يُخوّنُ فيه الأمين، ويؤتمن الخائن، وتذَاع فيه الأسرار، ولاَ تُراعَى عندَكُم حُرْمةٌ لجَار، ويَستجِيرُ بكُم الخَائفُ فلا يُجار، ويُنتهَكُ العِرضُ وليس فيكُم من يغَار، وتُسفك دماء القبائل تتَرى جِهارا في النهار، ومَا منكم آخذٌ بِثَار، وتُوقدون نيرانَكُم خَضْراءَ للإيثار. ومَا هي في ذلك من شيء ولكنّها للإشْهَار، ألا ما أقبحَ عيشَكم عيشَ العار، وإنِّي مُفَارقكَ لا حَمدتَ ذلك الجِوار.
فلمّا أن غادر محادثتي، وانطفأَ النّور الأخضر الموقدُ أمامَ خيمته، أخذتُ نفساً عميقاً؛ وكتبت منْشُوراً على إثره معبّراً عن شعوري بالارتياح، ومدافعا عن أولي الصّلاح والإصلاح، متمثّلا بقول أبي الطيب:
وفي تعَبٍ من يَحسدُ الشّمسَ نُوْرَها ... ويعْجَزُ أن يأتِي لها بــ "شكِيبِ".
ومع تباشير الصّبح الأوّل غادرتُ القرية الزرقاء، وبسطتُ ساقي لأطْفِيءَ بأصبع قدمي الكبير ما تبقّى من أضواء، ثمّ تمدّدت في فِراشِي على أمَل أنْ تَتَوسَّطَ شمسُ نهَارٍ جَديدٍ في كبدِ السماء، فأستيقظُ مُتثائباً بين جدرانِ الأصْدقاء، بمنشورٍ أدْعو فيه لأهل الأرضِ والسَّماء، بأجلّ عباراتِ الحمْد والثناء؛ "أصبحنا وأصبح الملك لله وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أنّ محمد رسول الله."
انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ هذا حوار خيالي حاولت أن أقلّد فيه الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في كتاباته: أعرابي في الحمام، وأعرابي في السينما، ... وغيرهما معتمدا على المفارقة في سرد الأحداث، وقلب الحقائق، وموظفا ما استطعت استحضاره من شعر، مسلطا الضوء على أغلب المظاهر السائدة في الفيسبوك.
2 ـ الأبيات للشاعر مصعب بلهادف.
3 ـ الأبيات من إنشائي
4 ـ البيت ليس من نظمي.
5ـ الأمر الخطير أي الأمر العظيم .
6 ـ الأبيات للبيد بن ربيعة.
7ـ جمع المذكر السالم
8ـ البيتان من نظمي الخاص وليسا لجميل.
9 ـ الأبيات للشاعر: مصعب بلهادف

ملاحظة: حاولت أن أسلط الضوء على بعض المظاهر السلبية في هذا الفضاء الأزرق، باستخدام التخييل والمفارقة وقلب الحقائق لا غير. كما أتقدّم بالشكر لكل من ساعدني خاصة الأصدقاء: Ismail Mouloudi و Adil Bleila و الشاعر مصعب لهادف.
تحياتي.

أجدد التحية لك و للثلة الذين أعانوك في إتمام هذا العمل المتميز في مبناه و معناه

ههههههههههههه

أضحك الله سنكم وفرّج همومكم

قصة رائعة ساحرة آسرة ... وأنا أقرأ فصولها أتوقف لأبتسم تارة ولأضحك تارة أخرى، أُكبِر فيك أستاذي روح الفكاهة ودقة انتقاء الأشعار وإتقان السرد وقوة الحبكة، لقد كنتُ ولا زلتُ أرى فيك مُلهم فن الأدب العربي في بلدتنا، بارك الله سعيك أستاذي الشريف الجرجاني وبارك في من سعى معك في بناء هذه الرائعة، وأبلغ سلامي لصديقك الأعرابي وإياك وإغضابه حتى لا يحظرك فنُحرَم من إطلالة جديدة له

» أعرابيّ في الفيسبوك.... الجزء الأول
» مدن لها تاريخ الجزء الثاني
» الفراشة الجزء الثاني
» ضحايا الحب الجزء الثاني
» مختارات من الفيس بوك، الجزء الثاني عشر