[rtl]من عبق الذاكرة[/rtl]
[rtl]- لست أنسى يوما من صباي أحداثه نقشت في أعماق ذاكرتي، لكن بريقها يسطع دوما على صفحة بحر الذكريات، و يعود بي الحنين إلى فترة من عمري إلى حدود ثلاث و ثلاثين سنة، و قد مضى من عمري أربع سنوات، أيام كانت الكتاتيب مزدهرة، وبإمكاني و أنا في هذه السن أن أسمع أصوات الطلبة و هم يتدارسون كتاب الله في ألواحهم، بل يمكنني رؤية وجوههم و هم يتحلقون حول شيخنا سيدي أحمد اباعالي بختي-رحمه الله- وهو يرفع عصاه عاليا ليهوي بها على رأس أحدنا، فينطلق هذا الأخير في موال من البكاء، يستنفد فيه كل إمكاناته الصوتية، هو لم يقترف إثما يستحق أن يضرب من أجله، لكن شيخنا كان لا يرضى إلا بالأصوات عالية بين يديه، فعلو الصوت دليل على اجتهاد الطالب، و يدب فينا نشاط قد مزج بالخوف، و قد كثر بين يديه الطلاب فصار لزاما عليه أن يتعامل مع أكثر من واحد في الوقت ذاته.[/rtl]
[rtl]- وناداني شيخي يوما، فأسندت لوحتي إلى الجدار و اقتربت منه فأمرني أن أستظهر ما حفظت من القرءان، وما كنت قد تجاوزت سورة العاديات،فأدنيت في من أذنه، وفي وضعية الركوع اقتحمت السور بكل إتقان، فأثنى علي، ثم ماذا كانت جائزتي إنها قطعة من السكر يوم أن كان السكر ينتج في قوالب مخروطية، وكانت سعادة ما بعدها سعادة، إنها أول مرة أجازى فيها و كانت من أجل القرءان.[/rtl]
[rtl]- و طفقت أنظر إلى فتاة اسمها مريم كرمت هي أيضا، فاعتبرتها منافسة لي و لجأت إلى المقارنة بين قطعتها و بين قطعتي، و اعتبرت أن حجم القطعة دليل على تفوق أحدنا، لكني لم أجد فرقا بين القطعتين، و ظللت ألعق السكر بلساني على خوف من أن ينقضي، لكن وبعد عودتي إلى دارنا سلبت مني قطعتي وألقيت في أبريق الشاي بدعوى أن السكر ضار بالصحة.[/rtl]
[rtl]- ولقد كان كتاب شيخنا مدرسة للحياة، علمني شيخي القرءان و أمور ديني كما علمني كيف أغسل ثيابي و كيف أؤبر النخلة و كيف أروي بستاني بل وكيف أطبخ، لقد كانت أياما و لا أروع، أما في الدروس الليلية و بعد انتهائها كنا نختم بأنشودة نصلي فيها على النبي محمد صلى الله عليه و سلم ونرفع أصواتنا بها فتخترق أصواتنا سكون الليل البهيم، و كذلك تفعل بقية الكتاتيب، و يسمعنا أهلونا و هم في بيوتهم فيرددون معنا وإذ بحينا كله يلهج بالصلاة على النبي محمد – صلى الله عليه و سلم-. [/rtl]
[rtl]- لازلت أيضا أذكر أيضا أول مرة عاقبني الشيخ، لقد كنا نتحلق حوله و كنت أجلس عن يمينه فغفلت يسيرا و ما أفقت إلا على أصبعه السبابة الخشنة تمر فوق خدي الأيسر الناعم ، لقد كانت صفعة من الشيخ، بكيت يومئذ و تعلمت ألا أغفل في حضرة الشيخ مرة أخرى.[/rtl]
[rtl]- وتمر الأيام، تزوجت مريم و أنجبت، و توفي شيخي حينما كنت في الخدمة الوطنية، تألمت كثيرا وقد أحسن بي ربي إذ قدر لي أن لا أحضر جنازته لأني لن أحتمل، عزائي هو أني في آخر وداع بيني و بينه تركته عني راضيا ، وقد دعا لي أن أصل سالما إلى الله، ولم يبق إلا أحداث ذلك اليوم في ذاكرتي تأبى النسيان كأنما نقشت على الصخر، غير أني كلما ذكرتها وجدت حلاوة السكر في فمي. [/rtl]