[b]انتهت أعمال اليوم الأول للمؤتمر في سمرقند، وأُخذنا إلى محطة القطار وركبناه في رحلة استغرقت ثلاث ساعات إلى بخارى، حيث استقبلنا في رصيف المحطة كما استقبلنا في سمرقند، وقد ذكرت هذا في الحلقة الماضية فلا أعود لوصفه حفاظاً على وقت القارئ.
ثم أخذنا إلى فندق قصر بخارى وقدم العشاء، ثم لم يكن هناك إلا الراحة والإخلاد إلى النوم، لكن جاءني إلى الغرفة ثلاثة من طلبة المدرسة الشرعية وتحدثت معهم بحرية عن بعض الأوضاع الاجتماعية في البلاد، وذلك أني لم أجد أحداً أتحدث معه عن البلاد سوى الرسميين فقط، وهؤلاء في كل زمان ومكان لا يبثون كل ما في نفوسهم، وقد وجدت من هؤلاء الشبان حماسة وقدرة على الحديث والحوار باللغة العربية، وقد نصحتهم بنصائح ثم انصرفوا، جزاهم الله خيراً ونفع بهم.
وفي اليوم التالي بدأت الجلسة الثانية للمؤتمر، وقد طرح فيها عدة بحوث منها: "الأوزبك في تركيا" للدكتور التركي أكرم كولتشان وقد تحدث بالعربية جزاه الله خيراً، وبين في بحثه أن الأوزبك إذا أرادوا الحج مروا باسطنبول أولاً ويصلون الجمعة مع السلطان ثم يستأذنونه استئذاناً رمزياً في الحج، وذكر عن أحد هؤلاء أنه لما جاء اسطنبول وجد أن حرب القرم قد بدأت فشارك في الجهاد، ثم شارك مع الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ثم بعد الفراغ من الحرب سنة 1338/1918 ذهب للحج ثم عاد ليجد سوريا في حرب مع الفرنسيين فشارك في الجهاد حتى استشهد ودفن في طرطوس سنة 1340/1920 فرحمه الله رحمة واسعة، وهذا يبين كيف أن المسلمين وحدة واحدة إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
وذكر في بحثه أيضاً جملة من أخبار المجاهدين، وذكر أيضاً بعض أخبار التكية الأوزبكية في اسطنبول التي بنيت بأمر السلطان محمود الأول.
وكان من الأبحاث أيضاً بحث الدكتورة زهرا قادروفا وتحدثت عن "الأسس التاريخية والفلسفية للتسامح الديني والحوار بين الحضارات في أوزبكستان" فتحدثت عن كل شيء تقريباً ولم تذكر الإسلام وهو الأساس العظيم للتسامح بل هو الأساس الأول للبحث في هذا الموضوع إنما اكتفت بذكر بعض النصوص عن أبي الريحان البيروني والفارابي، فقام أحد الباحثين فعقب على بحثها بأنها أغفلت الأساس الصوفي ووحدة الشهود وجهود النقشبندية في هذا الباب، فلم أر إلا التعقيب فطلبت الكلمة وأعطيتها، وبينت للدكتورة والحضور أن البحث أغفل أساسين مهمين جداً: الأساس الأول آلاف الكتب الفقهية التي ألفها العلماء الأوزبك على مدار التاريخ ووضعوا في ثناياها الأسس الرائعة للتعامل مع غير المسلمين في البلاد الإسلامية وفي خارجها، وهذه الأسس مستندة إلى الكتاب والسنة، والأساس الآخر هو الواقع التاريخي حيث إن أوزبكستان زخرت بعديد من القوميات غير الإسلامية التي عاشت في وئام وسلام لا مثيل له، وسمح لها بأداء شعائرها بحرية، ولم ينقل التاريخ الطويل أي اعتداء عليها، وهذا من أعظم الأسس التي تبين التطبيق العملي لمبادئ الإسلام وتردع الذين يتهمون الإسلام بالتهم الغريبة التي نسمعها اليوم.
ثم رفعت الجلسة لتناول الشاي والفطائر.
وبدأت الجلسة الثالثة ببحث مهم وهو "دور الأمير تيمور والتيموريين في قيادة الأمة الإسلامية" للدكتور زكريا كتابجي الأستاذ في جامعة قوينا بتركيا، وكان باللغة العربية، فلما بدأ الدكتور بحثه طلب تغيير العنوان إلى عنوان آخر متعلق بتاريخ أوزبكستان الإسلامي، ومن أهم ما ذكره في البحث أن هناك أمراً مؤسفاً ألا وهو استيلاء الشيوعيين على مقاليد الأمور في تركستان، ولم يكتفوا بالسيطرة الاقتصادية والسياسية بل تعدى ذلك إلى طمس الهوية الإسلامية، وفصل تركستان عن العالم الإسلامي بستار حديدي يشبه سور الصين العظيم، ثم ذكر نعمة الله على التركستان بالانعتاق من الشيوعية وحمد الله على ذلك، ثم أنهى بحثه بلفتة بارعة رائعة حيث نادى رجال الدولة الأزبكية وطلب منهم العودة إلى دين الإسلام، كيف لا وهم أحفاد خانات ـ أي ملوك ـ الأوزبك القدماء الذين ساروا على نهج الإسلام في وقت الحضارة الذهبية للإسلام، وكرر هذا الطلب منهم ثلاث مرات بصيغ مختلفة، وهذا ـ في رأي ـ أهم ما قيل في المؤتمر مطلقاً، وذلك لأن وسائل الإعلام الأوزبكية نقلته، وكان هناك حضور شعبي لا كما كان الأمر في سمرقند فقد كان الحضور مقصوراً على الباحثين، ولأن قائل ذلك باحث تركي له قدره ووزنه في الأتراك بالمعنى الواسع أي في التركستان وما تفرع منهم في الأناضول ـ تركيا اليوم ـ فجزاه الله خيراً.
ثم تحدثت الدكتورة ماجدة مخلوف من مصر عن "الأوزبك في مصر: اللحظات التاريخية" وهي رئيسة قسم اللغات الشرقية وآدابها بجامعة عين شمس في مصر، وذكرت في بحثها أن أول الأوزبك الذين حكموا مصر هم آل طولون: أحمد وابنه خُمارويه، وكان لأحمد أيادي جليلة في رد البيزنطيين، وكان منقاداً إلى الشريعة كريماً محسناً إلى شعبه محبوباً منهم.
ثم جاءت الدولة الإخشيدية وهي أوزبكية أيضاً.
وذكرت أيضاً أن الأوزبك كان لهم مناصب ووظائف قيادية رفيعة في دولة المماليك، وكانوا أمراء فيها أيضاً، وكان بين الأوزبك والمماليك السلاطين مصاهرات عديدة. وهناك أسر أوزبكية ما زالت تعيش في مصر إلى اليوم وتحتفظ بأسمائها. ثم عرضت في آخر بحثها عدة صور جميلة عن آثار الأوزبك في مصر مثل جامع ابن طولون الباقي إلى اليوم بحي السيدة زينب بالقاهرة. وعرضت مسجد الأمير أوزبك اليوسفي الذي أنشأه في أول القرن العاشر الهجري وهو اليوم بحي القلعة بالقاهرة.
ومما يحمد لهذه الدكتورة الفاضلة أنها جاءت بحجابها، وهذا أمر مهم لأن هناك نسوة وفتيات كثيرات استمعن لمحاضرتها وليس بينهن امرأة محجبة، فعسى أن تكون قدوة لهن، إن شاء الله تعالى.
ثم تحدث الدكتور حامد الطحاوي، وهو أستاذ بكلية الآداب بجامعة الزقازيق في مصر، تحدث عن الحديقة الأوزبكية في القاهرة مفصلاً بداية إنشائها وعمل الأمير الأوزبكي في ذلك، إلى أن وصل الباحث إلى وضعها في العصر الحديث.
ثم تحدثت الدكتورة مولودة يوسفوفا، وهي موظفة في معهد الفنون في أكاديمية الفنون، وقد تحدثت عن "خصائص الهندسة المعمارية الإسلامية في أوزبكستان" وكان حديثها مشفوعاً بعرض مرئي.
ومن أهم ما ذكرته أنه في القرون التي قبل القرن السادس عشر الميلادي لم تكن تبنى الأضرحة فوق القبور التزاماً بتعاليم الإسلام خاصة في بخارى، وإنما انتشرت بعد ذلك على قبور النقشبندية، وهذا الذي أوردته أجاب على سؤال كان يدور في نفسي ذكرته في الحلقة السابقة.
ثم تحدث الأستاذ الدكتور عبيد الله أواتوف، وهو مدير خزانة المخطوطات في جامعة طشقند الإسلامية، تحدث عن: "أوزبكستان موطن المحدثين العظام" وقد سرد أسماء بعض المحدثين ثم خص أربعة بالحديث لكن قبل ذلك أشار إشارة حسنة إلى أن الحديث هو المصدر الثاني المهم بعد القرآن، وذكر أن الأحاديث مصدر مهم لحياتنا المعاصرة، ونستفيد منها في جوانب عديدة منها تربية الأولاد على الإسلام، ثم عرض عرضاً موجزاً حياة الإمام الدارمي السمرقندي، وكتابه "المسند"، ثم عرض حياة الإمام البخاري رحمه الله تعالى عرضاً موجزاً أيضاً، وقد ذكر أن كتابه الجامع الصحيح لم يسمح الروس بطبعه ولا تداوله، لكن بعد الاستقلال نشر كتابه واحتُفي بصاحبه رحمه الله تعالى.ثم عرض حياة الإمام الترمذي، ثم ذكر المحدث أبا سعيد الهيثم بن كليب الشاشي، ثم ختم حديثه بأنه يجب على الأوزبكيين ترجمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اللغة العربية والعناية بآثارهم الحديثية، وهذا هدف مشترك مع العرب، كمال قال.
ثم تحدث أخيراً الأستاذ الدكتور زاهد إسلاموف وهو نائب مدير جامعة طشقند الإسلامية، وموضوعه:"مكانة العلماء الشاشيين في تطوير الدين الإسلامي وفلسفته" والشاش هي طشقند الآن، وبدأ حديثه بأن أوزبكستان بعد الاستقلال صارت قادرة على إحياء تراثها ونشره، وهناك مؤتمرات عالمية أقيمت بعد الاستقلال على أرض أوزبكستان لإحياء ذكرى العلماء، وأسست جامعة طشقند الإسلامية، وترجمت معاني القرآن الكريم والأحاديث، ورممت الجوامع القديمة الأثرية المهمة، وذكر أن اختيار طشقند لتكون عاصمة للثقافة الإسلامية لسنة 1427/2007 له دلالة كبيرة على عظمة تراث هذه المنطقة وتاريخها. ثم ذكر أمثلة على العلماء والصلحاء الذين زخرت بهم بلاد الشاش "طشقند" منهم أبو بكر القفال الشاشي الفقيه الشافعي المشهور. وذكر أن اسم طشقند قد التزمته بلاد الشاش في القرن السادس عشر.
وختم بأن هذا البحث وأمثاله يغرس في قلوب الشباب العزة والفخر بهذا التراث، وأنها مقدمة مهمة لدراسة المجتمع الأوزبكي وتراثه.
ثم عقب بعض الباحثين على بعض الأبحاث، وانتهت أعمال هذه الجلسة، وطلب منا أن نتغدى ونعود سريعاً للجلسة الثالثة التي حفلت بعدة بحوث منها بحث قدمته عن "المدن الأوزبكية التاريخية: عرض وتحليل".
ثم تحدث الأستاذ الدكتور عبد اللطيف العبيد عميد كلية اللغات الخارجية في تونس، تحدث عن موضوع مهم وهو "أهمية تدريس اللغة العربية في أوزبكستان وفي آسيا المركزية" أي آسيا الوسطى، وذلك أن الهالك ستالين غير اسم موقع التركستان من آسيا الوسطى إلى آسيا المركزية، وذكر الباحث لأهمية العربية وجوهاً عديدة منها العامل البشري حيث يتحدث العربية 300 مليون عربي، وعدد ضخم جداً من سكان الدول الإسلامية غير العربية يفهمون العربية ويتحدثون بها، ومنها أن اللغة العربية صارت لغة معتمدة في كثير من الهيئات العالمية، وصار يهتم بها العديد من الدول العالمية، ومنها أن اللغة العربية هي لغة دين الإسلام، ومنها أن اللغة العربية هي لغة الحضارة والفنون قديماً، ومرشحة الآن لتعود لسابق مجدها ولتكون لغة الحضارة الإسلامية المنشودة والمترقبة في هذا الزمان، إن شاء الله تعالى.
وبين بعد ذلك أن أهمية تدريس اللغة العربية في أوزبكستان تنبعث من العوامل السابقة، ولأن هذه اللغة نقلت الدين إلى هذه المنطقة، ولأنها أَثْرت اللغة الأزبكية، ولأن كثيراً جداً من المؤلفات الأزبكية كتبت بها قديماً، ولأنها كانت لغة التواصل بين سكان هذه المنطقة وبين البلاد العربية، ولأن سكان المنطقة إذا تعلموا العربية تمكنوا من الاطلاع على تاريخهم وثقافتهم، وتمكنوا من الاتصال بالعرب من جديد.
ثم تحدث د. نجم الدين كاملوف وهو أستاذ كرسي في أكاديمية بناء المجتمع بطشقند، تحدث عن "خواجة بهاء الدين نقشبند: حياته وآثاره".
ثم ألقيت بحوث أخرى ختم بها المؤتمر في يومه الثاني والأخير ثم تليت التوصيات في الجلسة الختامية ووزعت شهادات التقدير على المشاركين.
[/b]