إذا سمع أحدنا كلمة التوبة، فهي تعني أن إنسانا عاصيا شاردا يتوب من عصيانه، ويرجع عن غفلته؛ ليصحح مسار حياته بينه وبين الله تعالى، ولكن حين ننظر إلى قول الله -تعالى-: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وقول رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأستغفر الله -تعالى- وأتوب إليه في اليوم أكثر من مائة مرة". وغير ذلك من الآيات والأحاديث الداعية إلى عموم التوبة، لتلفت الانتباه إلى أن مفهوم التوبة لا ينحصر فيما يظهر على سطح رؤوسنا، وأن دلالات التوبة أشمل من التوبة من الذنب إلى الطاعة.
إن نداء الله -تعالى- بملازمة التوبة، وإخبار رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أنه يتوب إلى الله -تعالى- في اليوم أكثر من مائة مرة يوجب أن تكون التوبة ملازمة للإنسان، وألا يقف حد التوبة إلى النظرة الفردية للتوبة، فإن هناك معاني متعددة متجددة للتوبة، ومن ذلك: السعي الدائم لتطوير النفس والذات، والتوبة من التقصير في أداء الأعمال؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- أحب لنا الإحسان في كل شيء.
وقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة". أو ما عبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله إجابة لسؤال جبريل -عليه السلام- عن الإحسان، حين قال:" الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وهذا يعني كمال الإحسان في الأعمال كلها، وليس في العبادة وحدها، فإن كان الله -تعالى- يطلب من الإنسان أن يعبده على أكمل وجه، فإن هذا يولد أن يفعل الإنسان الأشياء التي يقوم بها على أكمل وجه، ولعل مما يكمل هذه النظرة حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه". فعدم إتقان العمل، والتقصير في أدائه يوجب التوبة من التقصير إلى الإحسان، ومن العمل الاعتيادي إلى العمل المتقن، وهذا في كل مجال من مجالات العمل في الحياة.
المفهوم الصحيح للتوبة
ولا يشترط في التوبة ترك العمل بالكلية إن كان خطأ، بل ربما يكون البقاء في العمل مع تصحيحه هو التوبة بعينها، ومثال ذلك: التمثيل، فبعض الممثلين يتركون التمثيل بالكلية، وهذا يعني أنهم يتوبون مما كانوا يفعلونه من تمثيل محرم، لما فيه من المحرمات التي لا تخفى على أحد، ولكن ترك الميدان للعابثين فيه ضرر أكبر، فيكون من حسن التوبة أن يبقى الإنسان في عمله، مع تصحيح مساره، وأن تكون التوبة بمقابلة التمثيل النظيف -الذي يهدف إلى بناء المجتمع، وغرس القيم الحضارية والإسلامية والإنسانية- بالتمثيل الذي يهدف إلى هدم المجتمع، ونشر الرذيلة والفاحشة، وتغيير أخلاق وسلوكيات المجتمع، والسعي لنشر التغريب بشقه السلوكي، الذي لا يتوافق مع روح الإسلام، ولا روح البيئة التي نعيش فيها. هذا فيما يخص الأفراد.
توبة من نوع خاص
وهناك التوبة الجماعية، وتوبة المؤسسات، وتوبة الدول؛ فقد يكون لبعض المؤسسات نشاط ضار بالمجتمع؛ كتلك المؤسسات التي تقوم بأنشطة محرمة، أو أنشطة غير نافعة، وإن لم تكن حراما، سواء أكانت هذه المؤسسات تقوم بأنشطة محرمة من حيث التعامل بالربا، أو التعامل في بضائع محرمة، أو التعامل في بضائع لا نفع فيها للمجتمع، أو المؤسسات التي تقوم على بث الأفكار الهدامة، والقنوات الفضائية التي تسعى لنشر الإباحية، مثل برنامج "ستار أكاديمي"، وغيره من البرامج التي لم تكن تعرفها المجتمعات الإسلامية، ولا البيئات العربية المحافظة.
ومن توبة المؤسسات أن تسعى لنشر العدل، وأن تقضي على الفساد الإداري، وأن تلغي التفريق بين العاملين المتساوين في الكفاءة والخبرة إلى أن يكونوا على قدم المساواة، وألا تكون هناك محاباة لرفع درجة أحدهم، لا لشيء إلا لقربه من صاحب القرار، أو تجعل هناك فروقا شاسعة في الرواتب بين العاملين المتساوين في درجاتهم الوظيفية، وأن تكون هناك محاولات دائمة للمراجعة والتقييم، وقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لأبي موسى الأشعري: "ولا يمنعك قضاء قضيته اليوم أن تراجع فيه نفسك؛ فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل".
وهذه القاعدة التي أرساها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- تعد أساسا للتوبة بمفاهيم متنوعة ليست محصورة في الرجوع عن المعصية؛ لتشمل الرجوع عن الخطأ والتقصير، والخروج من الأسوأ للسيئ على الأقل، ومن السيئ للحسن، ومن الحسن للأحسن، ويكون التحسين والتجميل والإتقان والإحسان من أهم مظاهر هذه التوبة الجديدة.
وللدول توبة
ويلحق بتوبة المؤسسات توبة الدول، فيما يخص علاقتها بالمواطنين من حيث الحقوق والواجبات، وترشيد الإنفاق، وإنفاق المال في الأوجه العامة بما يعود بالنفع على أكبر شريحة ممكنة، والمحافظة على حقوق الإنسان، وإتاحة الحريات للمواطنين، وإشاعة الأمن والحفاظ عليه، وإتاحة الفرص لأصحاب المواهب والقيادات أن يقوموا بدورهم تجاه دولتهم، وألا تحصر ولاية الأمر في بعض أفراد دون غيرهم، وأن تقوم سياسة الدولة على المصلحة العامة، لا المصلحة الشخصية، وأن تتحرر الدولة من التبعية لدول أخرى لها مصالح لا تتماشى مع طبيعة الدولة والشعب والهوية والدين، وأن تكون هي صاحبة قرار، لا أن تنفذ قرارات تملى عليها، وأن تفجر الطاقات الكامنة داخل المجتمع للانتفاع بها، وأن تُوجِد الدولة علاقة دائمة بينها وبين القاعدة الشعبية، وأن يحترم القائمون على الأمر طبيعة الشعب المحكوم؛ من حيث اللغة والدين والبيئة، فلا يفرضوا عليهم أمورا لا تتماشى مع طبيعة الدين واللغة والأعراف.
ومن التوبة للدولة التي تدين بالإسلام ألا تحكم بغير شرع الله تعالى؛ بل يجب أن يكون الشرع حاكما. واستيراد قوانين تتصادم مع الشرع هو نوع من الخيانة، يجب التوبة منه والرجوع عنه، ولا يتعارض مع هذا أن تستورد الدولة قوانين تتماشى مع مصالح الناس، وتحقق بعض الأهداف الشرعية بوسائل حديثة متجددة، شريطة ألا تصطدم مع أمور شرعية.
ومن توبة الدولة مع الشعب أن تقوم بتوفير الاحتياجات الأساسية التي لا غنى للشعب عنها، وألا تنفق الأموال في أمور قد تكون لها وجاهتها من وجهة نظر الدولة، ولكنها لا تصب في مصلحة الأفراد؛ كالإغداق في الإنفاق على الرياضة والفن، مع ترك الخدمات العامة، وإهمال فقر الناس، وعدم حصولهم على حاجاتهم الأساسية. وغير ذلك مما يختص بعلاقة الدولة بالشعب، وعلاقتها الخارجية بالدول الأخرى، وما في ذلك من مصلحة وضرر.
ويمكن إدخال مفهوم التوبة هذا في كل مجالات الحياة، بمختلف اتجاهاتها وتنوعاتها الثقافية والفكرية والإنتاجية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية والعلمية والإعلامية وغيرها.
توبة الأبرار
وهناك توبة الملتزمين، أو يمكن أن يطلق عليه توبة الأبرار والمقربين؛ وهي تعني أن يستغفر العبد ربه بعد أداء العمل الصالح ألا يكون أداه على الوجه المطلوب، وأن يكون وجلا ألا يتقبل منه، وقد يفهم هذا النوع من التوبة من قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}.
ليكون ذلك تطبيقا لقول الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
*لا تنسوا اخوكم بصالح الدعاء